ومنها قوله تعالى) إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره ())
أرغب بالإطلاع على آراء الأخوة المتعمقين حول قولي بعدم إطراد القاعدة التي قال بها الزركشي وتابعه عليها السيوطي من كون التنزيل يستخدم الرياح لأمر الخير والريح لأمر الشّر
ـ[لؤي الطيبي]ــــــــ[26 - 08 - 2005, 01:53 ص]ـ
ذكر الأخ عمر - حفظه الله - أن استعمال القرآن الكريم للفظة (رياح) يأتى بمعنى الرحمة، على أن هذا المعنى لم يطّرد في قراءة ورش لقوله تعالى: " مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّياحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ " (إبراهيم: 18).
كما أنه بيّن أيضاً أن المواطن التي جاء فيها استعمال القرآن للفظة (ريح) كان بمعنى العذاب، إلا في قوله تعالى: " وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ " (سبأ: 12)، وقوله تعالى عن نفس الريح التي سخّرها الله تعالى لسليمان: " فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ " (ص: 36).
والسؤال هو: لماذا لم يطّرد معنى الرحمة في (الرياح)؟ ولماذا لم يطّرد معنى العذاب في (الريح)؟
نقول - وبالله التوفيق - إن هذا الإشكال الظاهر يزول باعتبارين:
الأول: القول بأن لفظ (الريح) - مفرداً - يأتي للرحمة وللعذاب، كما في قوله تعالى: " حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ " (يونس: 22). أما (الرياح) - بالجمع - فلا تأتي إلا للرحمة.
وإلى هذا المعنى أشار القرطبي في تفسيره، قال: " فمن وحّد الريح فلأنه اسم للجنس يدلّ على القليل والكثير، ومن جمع فلاختلاف الجهات التي تهبّ منها الرياح. ومن جمع مع الرحمة ووحّد مع العذاب، فإنه فعل ذلك اعتباراً بالأغلب في القرآن نحو: (الرياح مبشرات) و (الريح العقيم)، فجاءت في القرآن مجموعة مع الرحمة مفردة مع العذاب، إلا في يونس في قوله: " وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ " (يونس:22)، وذلك لأن ريح العذاب شديدة ملتئمة الأجزاء كأنها جزء واحد، وريح الرحمة ليّنة متقطّعة، فلذلك هي رياح. فأفردت مع الفلك في يونس، لأن ريح إجراء السفن إنما هي ريح واحدة متّصلة، ثم وصفت بالطيب فزال الاشتراك بينهما ".
وعلى هذا فإن حُجّة مَن قرأ (الريح) بالإفراد: أن الواحد يدلّ على الجنس فهو أعمّ، كما تقول: (كثر الدرهم والدينار في أيدي الناس)، إنما تريد هذا الجنس. قال الكسائي: والعرب تقول: (جاءت الريح من ((كل)) مكان)، فلو كانت ريحاً واحدة جاءت من مكان واحد، فقولهم (من كل مكان) وقد وحّدوها، تدلّ على أن بالتوحيد معنى الجمع.
وحُجّة مَن قرأ (الرياح) بالجمع: أنها الرياح المختلفة المجاري في تصريفها وتغاير مهابّها في الشرق والمغرب، وتغاير جنسها في الحرّ والبرد، فاختاروا الجمع فيهن لأنهن جماعة مختلفات المعنى.
أما الاعتبار الثاني: فبالنظر إلى التنوّع في وصف القرآن الكريم لـ (الريح) - إفراداً وجمعاً. حيث يلفت انتباهنا في آية سورة إبراهيم - عليه السلام - أن الريح (الرياح) وُصفت بصفة مذكّرة، بصيغة (عاصف)، فقال تعالى: " مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّياحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ " (إبراهيم: 18)، وقد رأينا هذه الصفة المذكّرة للريح أيضاً في قوله تعالى في آية سورة يونس: " جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ ".
في حين أن الريح التي سخّرها الله تعالى لنبيّه سليمان عليه السلام وصفها الله تعالى في آية أخرى بصفة مؤنّثة، بصيغة (عاصفة)، فقال عزّ من قائل: " وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ " (الأنبياء: 81).
ومن المعلوم أن الوصف المذكّر (= عاصف)، فيه معنى القوّة والشدّة والقسوة والخشونة، ويلقي هذه الظلال المرادة. أما الوصف المؤنّث (= عاصفة)، ففيه معنى الليونة والخير والغيث والبركة والعطاء، ويلقي هذه الظلال المرادة.
والملاحظ أن السياق في سورة إبراهيم سياق شدّة وخشونة وهول وتوبيخ وتقريع، بحيث يناسبه وصف الريح بأنها عاصف. فالله تعالى يخبر بأن أعمال الكافرين التي عملوها في وجوه البرّ، كرماد طيّرته الريح العاصف، فلا يرون لأعمالهم تلك أثراً من ثواب أو تخفيف عذاب، كدأب الرماد المذكور.
فالاضطراب الذي يسيطر على هذا الموقف، يناسبه وصف الريح بأنها عاصف .. والوصف المذكّر (عاصف) فيه معنى الشدّة والقسوة والخشونة، ويلقي بذلك الظلال المرادة من الآية، سواء استُعمل فيها لفظة (ريح) أو (رياح) .. فهي موصوفة بالشدّة والقسوة والخشونة.
أما السياق في سورة الأنبياء فإنه سياق إيجابي، والحديث فيه عن نعم الله تعالى على داود وسليمان عليهما السلام، فالجبال والطير تسبّح مع داود عليه السلام، والله علّمه صنعة لَبوس ودروع يلبسها جنوده في الحروب، والله تعالى سخّر لسليمان عليه السلام (الريح الطيّبة)، التي تحمل الغيث والخير إلى الأرض المباركة، والتي ينتج عنها النبات والعُشب والزرع والثمار.
وهذه المعاني الإيجابية الطيّبة في السياق يناسبها وصف الريح بأنها (عاصفة)، لأن هذه الصفة تلقي ظلال الرخاء والنعومة والبركة والعطاء. فالوصف المؤنّث (عاصفة) فيه معنى الليونة والخير والغيث والبركة والعطاء، ويلقي هذه الظلال المرادة على استعمال لفظة (الريح) في هذا المقام.
وسبحان الله منزل القرآن المعجز ..
والله تعالى أعلم
¥