تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

والتشبيه نظراً إلى المحور الأول يتلاقى هو والتمثيل في "علم المنطق": بيان ذلك: أن البرهان حسب تقسيم المنطقيين ينقسم إلى ثلاثة أقسام: "القياس، والاستقراء، والتمثيل"، ويقصدون بالتمثيل: تشبيه جزئي بجزئيٍِ في معنى مشترك بينهما، ليثبت في المشبه الحكم الثابت في المشبه به المعلَّل بذلك المعنى؛ وبعبارة أخرى: المقصود به بيان مشاركة جزئيٍ لجزئيٍ آخر في علة الحكم ليثبت فيه ذلك الحكم (9)، كما يقال: "النبيذ حرام لأن الخمر حرام". وقد ثبتت عليّة الإسكار للحرمة بدليل الدوران والترديد (10)، فالتمثيل في الحقيقة داخل في إطار التشبيه، كما وأن التشبيه يمكن أن يعتبر من مقولة التمثيل: والنسبة بينهما عموم وخصوص مطلقاً، فكل تمثيل تشبيه، وبعض التشبيه ليس بتمثيل2، ويتميز التمثيل بأن ما يشترك فيه طرفاه يجعل بدليل الدوران والترديد علة لتعدية الحكم الثابت للمشبه به إلى المشبه؛ فقول الشاعر:

"وكم أب قد علا بابن ذُرى شرفٍ كما علت برسول الله عدنان" (11)

ـ قوله هذا يتحول إلى تمثيل هكذا: بعض الآباء يعلو بأبنائهم؛ لأن عدنان علت برسول الله، وأركانه الأربعة هي:

1 ـ الأصل أو المشبَّه به وهو "عدنان".

2 ـ الفرع أو المشبَّه وهو "بعض الآباء".

3 ـ الوصف المشترك بينهما أو الجامع، وهو "الانتساب إلى الأبناء".

4 ـ النتيجة، وهي الحكم بعلو بعض الآباء بأبنائهم.

وتعتمد هذه النتيجة قوة وضعفاً على مستوى صلاحية الوصف لأن يكون علة للحكم.

إن اشتراك المنطقيين والبلاغيين لا ينحصر في مجال التمثيل؛ فهما يتواردان على قسيم التمثيل وهو الاستقراء؛ فإن الاستقراء عبارة عن تصفّح الجزئيات لإثبات حكم كلي (13)؛ فالمستقرئ عندما يتصفح جزئيات ما يدخل تحت نوع واحد أو جنس واحد ويصل إلى نتيجة واحدة في غالب الجزئيات أو أغلبها، يحكم بثبوتها لجميع الجزئيات، والذي ينتهي به إلى هذا الحكم الكلي في الحقيقة اشتراكها في المعنى الكلي، أو بتعبير آخر مشابهتها في الجنس أو النوع، وهي مشابهة ذكرها علماء البلاغة في أقسام وجه الشبه (13).

المحور الثاني من المحورين الأساسيين اللذين يدور حولهما أغراض التشبيه هو الإيضاح والتفهيم بأخصر بيان وأبلغ كلام، فنقول هناك حالتان ترجع إحداهما إلى نفس المعنى خفاءً وغموضاً أو ظهوراً ووضوحاً، والأخرى إلى المخاطب بلادة وغباوةً أو ذكاءً وتوقداً.

فإذا كان المعنى واضحاً وظاهراً وتريد أن تجعله أظهر وأوضح، تأتي بتشبيه يوضح ما في ذات المشبه من الغرائز أو خارج ذاته من العوارض والأوصاف: فتقول: "هو كالأسد في الشجاعة"، و"هذا أبيض كالثلج"، و"وجهه كالبدر"، وغيرها، وهذا النوع يستعمل في الأغراض المتداولة كما يستعمل في المقاصد العلمية. وإذا كان المعنى غامضاً وخفياً وتريد أن تجعله ظاهراً وواضحاً تأتي بتشبيه لتخرج الخفي والغامض في صورة الجلّي والواضح؛ كما في إخراج ما لا يقع عليه الحاسّة إلى ما يقع عليه كقوله تعالى: (والذين كفروا أعمالهم كسراب بِقِيعِة ... (. وكما في إخراج ما لم تجرِ بهِ العادة إلى ما جرت بهِ، نحو قوله تعالى ـ: (وإذا نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظُلَّة ((15)، وكما في إخراج ما لا قوة له في الصفة إلى ما له قوة في الصفة. نحو قوله تعالى ـ: (وله الجَوارِ المنشآت في البحر كالأعلام (. (16).

وإذا كان المخاطب غبياً بليداً ترعى مقتضى حاله وتأتي بتشبيه بسيط كي يفهم المعنى، وكلما كان أغبى زدت في وضوح التشبيه، وإن كان المخاطب ذكياً متوقداً وتريد أن تسبر غور فهمه وذكائه أو تثير إعجابه وتحسينه، فتأتي له بتشبيه يحتاج إلى التأوّل الذي يتطلب تأمل المخاطب ودقته وهو ما يسمى بالتمثيل3. ويقول الإمام الجرجاني في البحث عنه ما ملخصه: "ثم إن ما طريقه التأويل يتفاوت تفاوتاً شديداً فمنه مايقرب مأخذه ويسهل الوصول إليه ويعطي المقادة (17)، طوعاً حتى أنه يكاد يداخل الضرب الأول [وهو التشبيه الذي لا يحتاج إلى التأول] مثل تشبيه الحجة بالشمس في إزالة الحجاب، ومنها ما يحتاج فيه إلى شيء من التلطّف وهو أدخل قليلاً في حقيقة التأول وأقوى حالاً في الحاجة إليه، كما في تشبيه ألفاظ الكلام بالعسل في الحلاوة، ومنه ما تقوى فيه الحاجة إلى التأول حتى لا يعرف المقصود من التشبيه فيه ببديهة السّماع كقول القائل: "هم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها" (18).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير