وجاء في القرآن آي أخرى قد قيس فيها أمر العود بالبدء بالتشبيه البرهاني؛ منها:
قوله تعالى: (كما بَدَأْنا أوَّلَ خَلْقٍ نُعِدُهُ ((27) وغيرها (28).
ب: قياس إحياء الموتى بإحياء الأرض؛ كما في قوله ـ تعالى ـ: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا اَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأنْزَلْنا بِهِ الماءَ فَأَخْرَجْنَا بهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ المَوْتَى ((19)، والتشبيه البرهاني أو التمثيل المنطقي في هذه الآية هو: "إحياء الموتى ممكن ومحقق، والجامع بينهما هو الاستغراب المرتفع بالتأمل في قدرة الله تعالى.
ومن الآي التي يستنبط منها هذا البرهان قوله ـ تعالى ـ: (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الميِّتِ ويُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ ويُحْيْي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وكذلك تُخْرَجُون ((30)، وآيات أخرى (31).
3 ـ إثبات قدرة الله ـ تعالى ـ بالتشبيه البرهاني:
وقد هدى الله ـ سبحانه- العباد على قدرته بإيراد التشبيه البرهاني كما في قوله: (إِنْ يَشَأ يُذْهِبْكُمْ ويَسْتَخْلِف مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كما اَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرينَ ((32)؛ فقد قيست قدرته على إذهاب المخاطبين واستخلاف ما يشاء من الخلق بعدهم ـ قيست قدرته تلك بإنشائهم من ذرية قوم آخرين.
ومن هذا القسم قوله ـ تعالى ـ: ( ... ويُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وعلى ِآلِ يَعْقُوبَ كما أتَمَّها على أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ ... (. (33). وآيات أخرى (34).
والتشبيهات البرهانية هذه، ليست بقليلة في القرآن الكريم ولا يسعنا في هذا المجال استيعاب جميعها، فنكتفي بالنماذج المذكورة وندع تفصيلها لفرصة أخرى.
ب: التشبيهات البيانية في القرآن الكريم.
ورد في التنزيل تشبيهات لا في مقام الاستدلال على وجود شيء أو إثبات حكم لموضوع؛ بل في مقام التوضيح والتبيين اللذين لا ينحصران في الحالات المعدودة التي ذكرت في كتب البلاغة؛ بل يشملانها وغيرها مما وجدت إلى بعضه سبيلاً؛ منه:
1 ـ تقريب المعنى إلى نفس المخاطب وتصويره في خياله، وذلك في مقام وصف نعيم الآخرة أو عذابها وما أعد فيها للمطيعين وأصحاب الجنة أو العاصين وأصحاب النار؛ فبما أن أنواع النعمة أو العذاب في الآخرة لا تكون من جنس نعيم الدنيا أو عذابها، فلا يمكن تشبيه إحداهما بالأخرى إلا على سبيل التقريب؛ كوصف الحور والغلمان والأكواب والآنية وغيرها (35).
2 ـ التسوية بين الشيئين المماثلين في الحكم أو الأثر (36).
3 ـ المكافأة والمجازاة.
ولا يفيد هذا المعنى من أدوات التشبيه إلا"الكاف" نحو قوله ـ تعالى: (وقل ربِّ ارحمهما كما ربياني صغيراً ((37)، وقوله ـ سبحانه ـ: (وأحسن كما أحسن الله إليك ((38)، وقوله ـ عز وجل ـ: (فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا ((39)، و (40).
هذه هي بعض ما استطعت أن أجد له سبيلاً من الأغراض البيانية المصوغ لها بعض التشبيهات القرآنية، ولعلنا إذا أنعمنا النظر في كلام الله ـ سبحانه ـ نستطيع أن نكشف النقاب عن بعضها الآخر.
وكما أشرنا سابقاً لم يهتم علماء البلاغة في بحثهم عن تشبيهات القرآن إلا بالتشبيهات البيانية، سواء في بحوثهم العامة عن البلاغة، أو فيما خصوه ببلاغة القرآن وتشبيهاته؛ وممن خصص كتاباً بها ابن ناقيا البغدادي الذي سبق ذكره وذكر كتابه "الجمان في تشبيهات القرآن".
ويمتاز هذا الكتاب باستخدام الأسلوب النقدي في عرض بلاغة أكثر التشبيهات: أعني أنه أولاً يعرض تشبيه الآية وبراعتها وبهاءها وما استطاع أن يستنبط من محسَّناتها ثم يتبعه بإيراد تشبيهات من نفس التشبيه في أشعار العرب، ويذكر أحياناً محاسنها وما يؤخذ عليها، وبالتالي يصل القارئ نتيجة هذا العرض والإيراد إلى أنه لا يمكن قياسها بتشبيهات القرآن ويتبين له أن مافي القرآن فريد في نوعه لا يدركه بعد الهمم ولا يناله غوص الفطن.
وربما يصرح بهذه النتيجة المفهومة والمستنبطة من أسلوبه النقدي؛ فهو مثلاً بعد ذكره تشبيه الآية: (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشدُّ قسوة ((41)، ونقله أبياتاً من شعراء العرب وقع فيها هذا التشبيه، يقول: "ومعنى التشبيه بعد أن أتم وأوفى وأعلى بقوله ـ تعالى ـ: (وإن منها لما يهبط من خشية الله .... (. (42)؛ وكذلك بعد نقل تشبيه الآية الكريمة: (وعندهم قاصرات الطَّرِفِ عينٌ كأنَّهُن بَيضٌ مكنون (. (43)، وذكر شعر عدي بن زيد العبادي المتضمن لنفس التَشبيه (44) ـ بعد ذلك كله يقول: " ........... إلا أنه لم يوصف البَيض في هذا الباب بأحسن ولا أجمع لمعاني الوصف مما نطق به التنزيل؛ فإن لفظة "مكنون" متضمنة معنى السلامة والخلوص من جميع العوارض التي تنتقص رونقه وتشين بياضه وتكسف بهاءه ... " (45). ويزيد تأكيداً لما بيّنه من محاسن كلام الله: "وعلى إكثار الشعراء من تشبيه النساء ووصفه بما يدل على حال المشبَّه به، فما أتوا ببلاغة تشبيه القرآن ولا قدروا على نقل لفظة [المكنون]. من هذا المكان وقد أطالوا وأقصروا وأوردوا وأصدروا .... ". (46). وينقل جملة من أشعار الجاهليين والمخضرمين والإسلاميين في مثل ذلك التشبيه، وبينها وبين التشبيه في كلام الله بون لا يتصوره مداه وغور لا يدرك منتهاه.
فابن ناقيا يعدّ بحق أول من فتح الطريق أمام من يريد دراسة بلاغة القرآن بالنقد والتحقيق، وكتابه "الجمان" يعد من أهم مصادر تشبيهات القرآن، وندع ا لبحث عن محاسنه وما يؤخذ عليه لوقت آخر إن شاء الله تعالى؛ وهو الموفق للسداد، ونرجو في جميع أمورنا منه الرشاد.
انتهى بتوفيق الله تعالى.
¥