يقول ابن القيم (): "إن الفعل المعدَّى بالحروف المتعدِّدة، لا بد أن يكون له مع كل حرف معنى زائد على معنى الحرف الآخر، وهذا بحسب اختلاف معاني الحروف، فإن ظهر اختلاف الحرفين ظهر الفرق، نحو رغبت عنه، ورغبت فيه، وعدلت إليه، وعدلت عنه، وملت إليه وملت عنه، وسعيت إليه وبه، وإن تفاوت معنى الأدوات عسر الفرق، نحو: قصدت إليه وقصدت له، وهديته إلى كذا وهديته لكذا، وظاهرية النحاة يجعلون أحد الحرفين بمعنى الآخر، وأما فقهاء أهل العربية فلا يرتضون هذه الطريقة، بل يجعلون للفعل معنى مع الحرف ومعنى مع غيره".
وبناء على ذلك فالهداية تختلف في دلالتها باختلاف الحرف الداخل على فعلها، والقرآن قد ذكر نوعين من الهداية، الأولى هداية الإرشاد والبيان، ويتمثل ذلك في توضيح المنهج الحق والإرشاد إليه، وهذه هداية عامة. والهداية الأخرى هداية التوفيق والإلهام وهي أخص من الأولى وتترتب عليها، والمقصود بها إلهام الله النفوس وتوفيقه لها في سلوك طريق الهداية والاستقامة عليه. وهذا النوع من الهداية يختص به – الله عزوجل – لأنه هو وحده الذي يملك القلوب ويوجهها.
لذلك ففعل الهداية إذا عُدِّي بـ (إلى) "دلَّ على الإرشاد وإيصال المهدي إلى الغاية المنشودة، وحين يعدى بـ (اللام) يدل على التوفيق وتهيئة القلب والنفس للسعي من أجل هذه الغاية، انبثاقاً من معنى الاختصاص في اللام" ().
ولهذا الفعل نظائر في القرآن الكريم من ذلك قوله تعالى على لسان أهل الجنة:
?وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ? [الأعراف:
43].
وقوله تعالى: ?وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى? [النازعات: 19].
وقوله تعالى: ?وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ? [الشورى 52].
ويقول ابن كثير (ت 774هـ) -وهو يتحدث عن فعل الهداية وتعديه () " وقد تعدَّى بـ (إلى)، كقوله تعالى: ? اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ? [النحل: 121]، و:?فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ? [الصافات: 23]، وذلك بمعنى الإرشاد والدَّلالة، وكذلك قوله: ?وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ? [الشورى: 52]، وقد تعدَّى باللام، كقول أهل الجنة: ?الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا? [الأعراف: 43]؛ أي: وفقنا لهذا وجعلنا أهلاً".
ومن هنا ندرك سر العدول في آية يونس التي نحن بصددها، وهي قوله تعالى:
?قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ? [يونس: 35] ففي ذلك آية من آيات الإعجاز والتحدي لهذه الآلهة المزعومة ولأصحابها، إذ تحدَّاهم أن يوجد منها من يملك هداية البيان والإرشاد؛ للدلالة على طريق الحق، فضلاً أن يوجد منها هداية التوفيق والإلهام، فهذه هداية لا يملكها إلا –الله عزوجل- الذي لا يملك توجيه القلوب وتوفيقها إلا هو؛ لذا عدَّى فعل الهداية مع الشركاء بـ (إلى)، ومع المولى –عزوجل- بـ (اللام) للدلالة على أنه المختص وحده بهذه الهداية، فيكون نفيه عن الشركاء هداية الإرشاد قد تضمن نفي هداية التوفيق عنهم قطعاً، ويكون إثباتها لله – عزوجل – واختصاصه بها، يتضمن إثبات هداية الإرشاد له من باب أولى.
ـ[لؤي الطيبي]ــــــــ[07 - 05 - 2008, 10:08 ص]ـ
بارك الله في الجميع، وتحليل الدكتور عبدالله الهتاري أكثر من رائع، ويؤيّده أنّ الهداية التي هي للغاية والانتهاء إليها قد اختصّها الله تعالى لنفسه أو لقرآنه، فلم يستعمل (هدى لكذا) إلا له سبحانه أو لكتابه، فهو المبلغ للغايات بخلاف (هداه إلى كذا)، فقد استعمله له ولغيره ..
ـ[ضاد]ــــــــ[07 - 05 - 2008, 01:52 م]ـ
جوزيتم كل خير. وهذا الذي ذهبت إليه في استشعاري للآية, فالتعدية باللام أقرب إلى المتعدى إليه من التعدية ب\إلى\. ففي العموم كانت التعدية ب\إلى\ ثم في التخصيص والاستئثار كانت التعدية باللام وهي أقرب بين الفعل والمتعدى إليه, عكس \إلى\ التي تفصل بين الفعل والمتعدى إليه, وكأن المولى يقول أن المسافة بين الهداية والحق عن طريقه تعالى لا تمر بشيء, لأنها مباشرة, أما عن طريق غيره فهي محمولة بعربة \إلى\ وربما تصل وربما لا. والله تعالى أعلم بكلامه الحكيم.
وفيما يخص تغير المعنى بتغير حرف التعدية فهذا صحيح.