[من قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله فرض فرائض ...... )]
ـ[مهاجر]ــــــــ[11 - 08 - 2008, 07:30 ص]ـ
من قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إن الله فرض فرائض فلا تُضيِّعُوها، وحَدَّ حدودًا فلا تعتدوها، وحَرَّم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غَيْرَ نِسْيان فلا تسألوا عنها)
في هذا الحديث توكيد لما تضمنه من معان، فأول المؤكدات:
"إن"، ثم: الفاعل المعنوي: المبتدأ: "لفظ الجلالة" قبل دخول الناسخ عليه، الذي تكرر مضمرا في خبر الناسخ "فرض"، فحصل التوكيد بالتكرار: مذكورا ومحذوفا، واسمية الجملة، فالله، عز وجل، هو الذي يفرض ما شاء من فرائض، إما بالوحي المتلو، وإما على لسان نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فبلفظه يحصل: البيان لمجمل الوحي، أو البيان ابتداء، فهو شرع مبتدأ، وإن لم يأت صراحة في آي الكتاب العزيز.
فلا تضيعوها: عطف لازم على ملزوم، بأداة العطف التي تفيد التعقيب بلا تراخ، فالتهاون في أداء الفرائض أو تأخيرها أمر لا يمكن السكوت عنه، فهو أشد جرما من ارتكاب المنهيات، وإن كان كلاهما قادحا في دين فاعله.
وفي الجملتين المتعاطفتين: مقابلة بين: الفرض والتضييع، تزيد المعنى بيانا، فضد الفرض لزوما، الترك تهاونا، وقد يقال بأن بين الفرض والتضييع، إن نظرنا إليهما كمفردتين: طباقا بالإيجاب يفيد ذات المعنى الذي تفيده المقابلة بين متضادين، إذ بضدها تتمايز الأشياء.
ويقال في الثانية:
وحَدَّ حدودًا فلا تعتدوها: ما قيل في الأولى، فلا يحد الحدود إلا من بيده الأمر الشرعي، والعطف: عطف لازم على ملزوم، وإلا صار الكلام معيبا، إذ الأول بمنزلة العلة للثاني، والتعقيب مشعر بوجوب المبادرة إلى الامتثال، والمقابلة حاصلة بين حد الحدود وتعديها.
وكذا في الثالثة:
وحَرَّم أشياء فلا تنتهكوها: فكما أنه لا يفرض الفرائض إلا الله، عز وجل، فكذلك لا يحرم المحرمات إلا هو، وما قيل في العطف والتعقيب والمقابلة في الجملتين السابقتين يقال في هذه الجملة.
وسكت عن أشياء رحمة بكم غَيْرَ نِسْيان فلا تسألوا عنها:
رحمة بكم: علة سكوته عز وجل.
غَيْرَ نِسْيان: احتراس من توهم نسيان الله، عز وجل، تلك الأشياء، وفي التنزيل: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا).
ولازم سكوت الشارع، عز وجل، عن هذه الأشياء: ترك البحث فيها، إذ لو كان فيها خير في المعاش أو المعاد لما سكت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن بيانها، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة في حقه، فهو المبلغ عن ربه، عز وجل، وحاجتنا قائمة في كل عصر ومصر إلى معرفة أحكام ديننا، لنسوس به دنيانا ونعمر به أخرانا.
ولذلك عطف لازم هذا القول: "لا تسألوا عنها"، بالفاء التعقيبية التي لا تخلو من معنى السببية، إذ سبب ترك البحث فيها هو: سكوت الشارع، عز وجل، عن بيانها رحمة بنا، ونصوص الشريعة تشهد لهذا الأصل الجليل، فمن ذلك:
حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، مرفوعا: "ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ".
وفرع الأصوليون على هذا الأصل الجليل أصولا كلية من أبرزها قولهم:
"السكوت في موضع البيان بيان"، فسكوت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليس كسكوت غيره، فهو إقرار ينزل منزلة القول غير الصريح، بينما سكوت غيره قد يكون توقفا أو لعدم بلوغ العلم بالمسألة ......... إلخ.
وأعظم من ذلك سكوت الوحي عن أي فعل، يتعلق به تشريع، وقع زمن النبوة، فهو دليل على جوازه، وإن لم يبلغ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أو يقع بحضرته، وبذلك استدل جابر، رضي الله عنه، على إباحة العزل، فقال: "كُنَّا نَعْزِلُ وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ. زَادَ إِسْحَقُ، (أي: ابن راهويه)، قَالَ سُفْيَانُ، (أي: ابن عيينة): لَوْ كَانَ شَيْئًا يُنْهَى عَنْهُ لَنَهَانَا عَنْهُ الْقُرْآنُ".
واستدل به الشافعية، رحمهم الله، على جواز إمامة الصبي، خلافا للحنابلة، رحمهم الله، إذ أم عمرو بن سلِمة، رضي الله عنه، قومه، ولما يبلغ الحلم، ولم يشهد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذلك، فلو كان مما ينهى عنه لما سكت الوحي عن بيانه.
ولهذه القاعدة الجليلة فروع شتى يضيق المقام عن سردها.
ولذلك حد أهل العلم البدعة في الدين سواء أكانت علمية أم عملية بأنها: كل ما قامت إليه الحاجة، زمن النبوة، وانتفى المانع، ومع ذلك لم يفعله النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فمجرد تركه له والحال هذه: دليل على عدم مشروعيته.
فخرج بذلك نحو: قتال المرتدين فإن الحاجة لم تقم إليه زمن الرسالة لعدم وجود المرتدين أصلا، ونحو: جمع القرآن، فإن الحاجة قد قامت إليه زمن الرسالة حفظا للدين، وخاصة في مجتمع تغلب عليه الأمية، ولكن المانع قد قام، لأن الوحي متجدد باستمرار، فلا يمكن جمعه إلا بعد انقطاعه، لئلا يفضي ذلك إلى التغيير المستمر في النسخ المجموعة، فلما زال هذا المانع بوفاة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وانقطاع الوحي، بل قامت الحاجة إليه، بقتل عدد كبير من الحفاظ زمن حروب الردة، صار هذا الأمر دينا يتعبد به، وصار فاعله من أعظم الناس أجرا عند الله، عز وجل، كما قال علي رضي الله عنه: "أعظم الناس أجرا في المصاحف أبو بكر، إن أبا بكر كان أول من جمع القرآن بين اللوحين". اهـ
وكل من توهم أنه بحاجة إلى قول حادث في علم أو عمل، فإنما ذلك لنقص زاده من علم النبوة، فلو تضلع منه لما احتاج إلى غيره.
والله أعلى وأعلم.