من قوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ .... )
ـ[مهاجر]ــــــــ[22 - 05 - 2008, 08:04 ص]ـ
من قوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ).
أُحِلَ: حُذِفَ الفاعل للعلم به، فالله، جل وعلا، هو مشرع الأحكام، ومنزل القرآن، وفي التنزيل: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ).
الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ: ضمن معنى: "الإفضاء" فتعدى بـ: "إلى"، وفيه كناية لطيفة عما يستقبح ذكره صراحة.
وفي قوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ): تقديم ما حقه التأخير، تشويقا للمخاطَب واسترعاء لسمعه.
يقول أبو السعود رحمه الله: "وتقديمُ الظرف على القائم مقامَ الفاعل لما مرَّ مراراً من التشويق فإن ما حقُّه التقديمُ إذا أُخِّر تبقى النفسُ مترقبةً إليه فيتمكن وقتَ ورودِه فضلَ تمكن". اهـ
هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ: تشبيه بليغ: حذفت فيه أداة التشبيه ووجهه: فتقدير الكلام: هن كاللباس لكم في مخالطتهن لكم مخالطة الثياب الأجسادَ، فكأن الزوجة قد صارت شعارا لزوجها، فهي لباسه حسا ومعنى لما بينهما من تمام الخلطة وغاية الانبساط، فكلاهما قد أرسل السجية وتحاشى وحشة الحشمة وسار مع الجبلة، فسبحان من جعل منهن السكن والأنيس، وفي التنزيل: (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).
عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ: توكيد بـ: "أن" وما بعدها، فهي أبلغ في الدلالة على إحاطة علم الله، عز وجل، فقولك: علمت أنك فاضل، أبلغ في الدلالة على فضل المخاطب من قولك: علمت فضلك، مع أن الأول من جهة الصناعة النحوية يؤول إلى الثاني.
تَخْتَانُونَ: يقول أبو السعود رحمه الله: "والاختيانُ أبلغُ من الخيانة كالاكتساب من الكسْب". اهـ، فالزيادة في المبنى تدل على الزيادة في المعنى.
فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ: إطناب لبث الطمأنينة في قلوب من خالف الأمر، فلا يقنط من رحمة ربه، جل وعلا، وفي التنزيل: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).
فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ: أمر بعد حظر فيفيد الإباحة، أو الرجوع إلى ما كان عليه الحال قبل الحظر، كما قرر المحققون، وهو هنا أيضا: الإباحة، والمباشرة كناية ثانية عما يستقبح ذكره صراحة من أمور النساء، فكنى عنه بلازمه من التقاء أبشارهما حال الوقاع.
وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ: أمر آخر يفيد الإباحة ابتداء.
وفيما سبق إشار لطيفة إلى جواز الإصباح جنبا من جماع في رمضان، فلا يجب الغسل قبل طلوع الفجر، وإنما يجب الغسل قبل طلوع الشمس لإدراك صلاة الفجر، وهذا ما اصطلح أهل العلم على تسميته بـ: "دلالة الإشارة".
ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ: أمر يفيد الوجوب، وهو الأصل فيه، كما قرر الأصوليون والبلاغيون.
وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ:
نفي تسلط على المصدر الكامن في: "تباشروهن" فيفيد عموم النهي عن أي صورة من صور المباشرة إلا ما استثني كترجيل المرأة شعرَ زوجها، كما في حديث عائشة رضي الله عنها.
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا: أي ما سبق، على طريقة الإشارة إلى ما انقضى قريبا باسم الإشارة للبعيد، وفي التنزيل: (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا)، فالإشارة في "ذلك" للكلام المنقضي في الآية السابقة.
كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ: أي: "ليتقوا"، فـ: "لعل": تفيد التعليل في هذا الموضع.
والله أعلى وأعلم.