تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

إضاءات بيانية: {فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ}

ـ[د. حجي إبراهيم الزويد]ــــــــ[29 - 07 - 2008, 12:02 ص]ـ

يقول الله تعالى في قرآنه المجيد في سورة البقرة - سورة 2 - آية 155

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)

و يقول عز و جل في سورة النحل - سورة 16 - آية 112

(وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ (112)

يوجد فرق في الدلالة بين هاتين الآيتين:

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)

لاحظوا أن هذه الأية الشريفة اشتملت على كلمة (شيء) , ومجيء هذه الكلمة - هنا - للتخفيف من ألم الشعور بهذا الابتلاء, فشيء - في هذا المورد - يراد منها شيء من الخوف - أي قليل منه - وشيء من الجوع وشيء من نقص الثمرات.

جاءت المفردة (شيء) لتفيد التقليل والتحقير.

نجد أن كلمة شيء لم تذكر في الآية الأخرى, بل جيء بكلمة (لباس) التي أعطت عمقا دلاليا معنويا, حيث أفادت التهويل, فهي تفيد التمكن والملابسة, حيث عبر بالمفردة القرآنية (لباس) اللازم للابس.

(وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ (112)

تأمل المقطع القرآني:

{فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ}

نجد أن القرآن قد استخدم أدوات تعبيرية لتصف هول هذا المشهد وعظمته.

توجد في في الآية استعارتان:

الأولى: تبعية مصرحة, وهي الإذاقة.

الثانية: أصلية مصرحة, وهي اللباس.

جيء بالمفردة (أذاق) التي تستخدم عادة للإحساس بالطعام حلاوة ومرارة وسخونة وبرودة .. الخ ...

القرآن الكريم جاء بها ليعبر عن عمق الشعور والإحساس بالألم والمعاناة, ليعطي للمتلقي صورة حركية ناطقة حول تمكن هذا الألم وهذه المعاناة و العذاب من المشمولين بالخطاب, تماما كتمكن تذوق الطعام من فم من ذاقه.

الأداة التعبيرية الثانية التي أعطت صورة مهولة عن هذا المشهد هي المفردة (لباس) , فاللباس في الحقيقة هو ما يلبس, غير أن القرآن الكريم استخدمه للإشارة إلى التمكن و الإحاطة, حيث أن اللباس - كما هو معلوم - يحيط باللابس ويلازمه ولا ينفك عنه. وفي هذا فن بلاعي وهو الاستعارة.

فهتان المفردتان أفادتا ما يلي:

لباس

المفردة (لباس) لفظ استعير ليعطي دلالة على إحاطة ما أصاب هؤلاء القوم من الجوع والخوف, وتمكنه منهم وملازمته إياهم.

أذاقها:

أفادت استقرار الألم والعذاب في إدراكهم تماما كاستقرار الطعام في الجوف عندما يذوقه الإنسان, فيشعر بطعم الطعام في فمه ويحسه في داخله.

تأمل جمال البيان القرآني في استخدام هاتين المفردتين, وتأمل أنه بجعل الاستعارة الثانية متفرعة على الأولى , حيث أنها لفظها مفعولا للاستعارة الأولى, رسم صورة حركية ناطقة , تجعل المتلقي يشعر بعظم خطر الجوع والخوف وقد أحاطا بأهل القرية إحاطة شمولية متمكنة.

هذا التعبير يتناسب مع عظم الجرم الذي قام به أهل تلك القرية وهو الكفر بأنعم الله تعالى.

النقطة الثالثة حول تقديم الجوع على الخوف:

{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}

ذكر سبحانه وتعالى الأمن في البداية الأمن ثم أعقبه بذكر الرزق, وكان من المتوقع ذكر الخوف قبل الجوع, إلا أن القرآن الكريم قدم الجوع قبل الخوف, فما السبب في ذلك؟

تقديم الجوع على الخوف في الآية الثانية:

قد يكون سبب تقديم الجوع على الخوف في الأية الثانية, - والله أعلم - ليكون منسجما مع لفظ (أذاق) , فمعروف ارتباط تلك المفردة بالطعام, والعلاقة بين الجوع والطعام.

وهناك احتمال آخر, وهو أن يجيء بعد المتأخر في الذكر , وهو إتيان الرزق, ومن الشواهد القرآنية قوله تعالى في سورة أل عمران:

يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108)

تاملوا أنه في الآية الأولى قدم {تبيض وجوه} على {تسود وجوه} في البداية ثم قدم المقطع {اسودت وجوههم} على المقطع {ابيضت وجوههم}.

فسبحان الله .... ما أعظم أيات القرآن العظيم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير