[المجاز عند الزركشي.]
ـ[العبد اللطيف]ــــــــ[20 - 07 - 2008, 02:14 ص]ـ
المجاز عند الزركشي
لو لم يكن لبدر الدين ا لزركشي غير كتاب (البرهان في علوم القرآن) لكفاه، كيما يحتل المكانة التي شغلها وسط منظومة علماء المسلمين، فالكتاب رغم تأخره نسبيا، يعد من أمهات علوم القرآن التي لا يستغني عنها باحث في هذا المجال. ونحن في هذه الوقفة نزمع الوقوف العاجل عند أحد أهم المباحث التي انطوى عليها ذلكم الكتاب الجليل، وهو مبحث مجاز القرآن.
وليس يخفى أن لمبحث المجاز القرآني أهمية ركينة في التراث العلمي الإسلامي، من شواهدها أن هذا المبحث قد أدى بوضوح وفاعلية إلى تشكل أفكار رئيسة قام عليها عدد من الفرق والتنوجهات الفكرية في سواء منظومة الفكر الديني الإسلامي ن وحصريا فيما عرف ضمن أبواب العقائد بباب توحيد الأسماء والصفات، حسب التصنيف المتأخر عند كتّاب العقائد ن وبخاصة وسط فرقة أهل السنة. تلك الأسماء والصفات الإلاهية التي وردت في النصوص المقدسة الإسلامية؛ فأثارت خلافات عقدية بالغة الأهمية والخطورة، واسعة المدى، عميقة الأثر. وذاك ما نراه بجلاء في كتابات الأشاعرة والمعتزلة، ثم فرقة أهل الحديث والسلفية بفروعها، التي تشكلت بوضوح في ما كتبه ابن تيمية (728) هـ وابن القيم (751) هـ، وصولا إلى ابن عبد الوهاب أواخر القرن الثامن عشر الميلادي.
وقد استتبع كل ذلك نشوء خلافات وعداوات بين الأفرقة الإسلامية التي طرقت موضوع المجاز القرآني والأسماء والصفات. ولا جرم أن كان المغذّي الأساس لتلك الخلافات ما عُرف وتأكد من سيادة ورسوخ الروح التنطعية، والعصبية غير العلمية عند كثير من فقهاء المسلمين –رحمهم الله-.
وكان لهم غُنية عن كل ذلك لو أنهم نظروا إلى القضية بمنظار لغة العرب التي تعد المجاز ظاهرة لغوية متحققة راسخة فيها، في حال النص المقدس أيضا هو نص لغوي لم يحد عن سنن العربية، وطرائق تعبيرها، وهذا ما أكده الله تعالى في مواطن كثيرة منها قوله: {إنا انزلناه قرآنا عربيا} سورة يوسف،
وقوله {…بلسان عربي مبين} الشعراء. ولهذا نجد من الغني عن الذكر التذكير بأن كلام النبي عليه السلام قد حوى من المجاز ما لا يحصى كثرة؛ تبعا لانتهاجه سنن التعبير اللغوي المألوف عند العرب الذين فشا المجاز في كلامهم فشوّا ذريعا واسها، قال تتعالى {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم} سورة إبراهيم. وهنا عليّ الإشارة إلى أن الخلاف في شأن المجازات القرآنية لم يظهر إلا بعد دخول الأعاجم ساحة الإسلام. وبعد زعزعة هيبة ومكانة اللغة العربية، مقارنة بالوضع الذي كانت عليه وقت حياة النبي وصحبه الأقحاح ومن قبلهم من الأعراب الخلّص.
ولقد كان للزركشي دورجلي في إثارة بعض قضايا المجاز بوصفه ظاهرة لغوية قرآنية لابست النص المقدس، وينكشف لنا ذلكم الدور فيما كتبه ضمن كتابه (البرهان في علوم ا لقرآن).
إن ظاهرة المجاز لها ساحة بعيدة الأطراف ن غزيرة الفروع، فضلا عن قيمتها البلاغية والجمالية في إطارها اللغوي. تلك القيمة ا لتي جعلت بعض أهل اللغة يجنحون إلى القول بأن المجاز أبلغ من الحقيقة (1)
ونحن في هاته الوقفة العجلى سنعمد إلى إشارات موجزة نحو أم القضايا ا لمجازية التي تعرض الزركشي لها ودرسها في كتابه البرهان وهي التالية:
أولا/ كون المجاز واقعا في النص القرآني (2). هاته مسألة غير شائكة بل غير مشهورة على النحو الذي اشتهرت باقي مسائل علوم القرآن. ولقد وضح الخلاف فيها بعد ابن تيمية الذي مال إلى القول بأن المجاز غير واقع في القرآن المجيد، ولم يكن ابن تيمية هو رائد هذا المذهب، حيث سبقه إلى ذلكم غير واحد منهم أبو إسحاق الإسفراييني (418هـ) و (أبو العباس ابن القاص335هـ) و (ابن خويز منداد4
ثانيا/ اشتراك اللفظ بين حقييقتين، أو حقيقة ومجاز.5
ثالثا/ كون الحذف نوع من أنوع المجاز، ووقوع الخلاف في ذلك.6
ليس من اتفاق على عدِّ الحذف من أضرب المجاز. ومن الاعتراضات أن المجاز استعمالٌ للّفظ في غير موضعه والحذف ليس كذلك. وقد أكد ابن عطية اعتداد الحذف من المجاز، وذلك بوضوح، فقال:
(وحذف المضاف هو عين المجاز، أو معظمه. وهذا مذهب سيبويه وغيره، وليس كل حذف مجاز) والسؤال الهام هنا: هل كل حذف مجاز؟ 7
ومن أهل العلم من وضع معيارا عنده يتحدد كون الحذف من المجاز أم لا. وهذا مانراه عند (عز الدين ا لزنجاني) في قوله (الحذف مجاز إذا تغير الحكم بسببه، وإلا فلا. مثلا زيد منطلق وعمرو، ليس مجازا رغم حذف الخبر) 8.
ويصرح الزركشي برأيه في هذه القضية فيقول ((إن أريد بالمجاز استعمال اللفظ في غير موضعه، فالحذف ليس كذلك؛ لعدم استعماله. وإن أريد بالمجاز إسناد الفعل إلى غيره-وهو المجاز العقلي- فالحذف كذلك)) 9
إذا الزركشي هنا يحصر الحذف في مطابقته المجاز العقلي؛ فلا يحكم له بالمجازية المطلقة، لكن أ يكون في الحذف إسناد للفعل إلى غيره حتى يقول الزركشي إن الحذف كذلك؟ أليس الحذف عدم استعمال والمجاز استعمال؟ فكيف يكونان شيئا واحدا؟
إن النقطة الأساسية المشتركة بين المجاز والحذف هي التي ذكرها الزركشي في في قوله: ((الحذف خلاف الأصل)) 10 - ووجه الاشتراك أن المجازأيضا خلاف للأصل.
ولعل هذا الاشتراك في مخالفة الأصل هو ما أغرى الكثيرين بالقول بأن الحذف مجاز بإطلاق. كما أن من وجوه الاشتراك بينهما ما يمكن تسميته باللذة الذهنية، وهي التي صرح بوجودها الزركشي في سياق ذكره فوائد الحذف إن حيث قال: ((إن من فوائده زيادة لذة بسبب استنباط الذهن للمحذوف، وكلما كان الشعور بالمحذوف أعسر، كان الالتذاذ به أشد وأحسن)).
يوكد الزركشي على نقطة أخرى، الخلاف فيها أقل مما سلف سوقه، وهي كون التشبيه والاستعارة من وجوه المجاز. وهذا من القضايا اللغوية التي لا تحتمل خلافا إذ الأمر فيها واضح جلي، لا يسمح بإنكار دخول الاستعارة والتشبيه ضمن أضرب المجاز، بل هما من أشهر وأوسع التطبيقات المجازية في لغة العرب.