تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

[أسلوب التقديم والتأخير المعنوي]

ـ[ابن عبد العزيز الرجداوي]ــــــــ[24 - 05 - 2008, 06:57 م]ـ

أسلوب التَّقْدِيمِ وَالتَّأْْخِيرِ الْمَعْنَوِيّ

مقاربة جمالية

دكتور

أسامة عبد العزيز جاب الله

كلية الآداب – جامعة كفر الشيخ

لما كانت علاقات التركيب محكومة بتقريرات النحويين في مسألة الرتبة، وما تلا ذلك من تناولات البلاغيين لمسألة جماليات " الإسناد " وتحولات السياق بالتقديم والتأخير. لذا كان لابد للنظرة البلاغية أن تتسع لتشمل في دراساتها وبحوثها شكلا آخر من أشكال هذه التحولات التركيبية؛ لكنه لا يخضع لمقررات وتقنينات النحويين في مسألة " الرتبة ". هذا الشكل الذي عايشه البلاغيون بصورة أدق وأعمق من تناولات النحويين. وقد نبع هذا الشكل من خلال التأملات الذوقية لآيات النص القرآني؛ هذا التأمل الذي أفرز في بداياته خاطرات تم تسجيلها على هيئة ملحوظات في كتب الإعجاز القرآني، والتي سرعان ما تنامت لتصل على يد الإمام الزركشي في كتابه " البرهان في علوم القرآن " إلى القدر الذي يمكن معه عدها " علما " استوى على سوقه يعجب الزراع.

إن المقصد هنا هو مبحث " التقديم والتأخير المعنوي " والذي يعد بحق من إعجازات التوظيف في النص القرآني. وأهمية هذا الشكل من " التقديم والتأخير " تكمن في كون أي محاولة للوقوف على أسراره في التوظيف القرآني من المؤكد أنها ستفضي بنا إلى ولوج باب من الفهم التأملي الذوقي للنص القرآني؛ هذا الفهم سيكون ممزوجا بالرقي الذوقي، وبالحس التأملي الذي افتقدناه في سياق الانقياد في الفلك المنطقي المدرسي الذي هيمن على مقدرات البلاغة العربية منذ ما بعد الإمام عبد القاهر الجرجاني.

ويرى السهيلي أن " هذا الشكل من التقديم والتأخير أصل يجب الاعتناء به، لعظم منفعته في كتاب الله تعالى، وحديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذ لابد من الوقوف على الحكمة في تقديم ما قدم، وتأخير ما أخر نحو: ?السَّمْعَ وَالْبَصَرَ? () و? الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ? () و? اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ? () و?الْجِنَّ وَالإِنْسَ? () في أكثر الآي، وفي بعضها ? الإِنْسِ وَالْجِنِّ? () وتقديم (السماء) على (الأرض) في الذكر، وتقديم (الأرض) عليها في بعض الآي " ().

وهذا النص الذي ذكره السهيلي هو عين ما ردده المتناولون للمحات " التقديم والتأخير المعنوي " في سياقات النص القرآني. إذ لابد من حكمة كلية تندرج تحتها (أسرار) لتوظيف هذا اللون من " التقديم والتأخير ". وباتباع بداية الطريق مع هذه الأسرار يمكننا الاقتراب – على استحياء – من سياقات (الحكمة الكلية) الكامنة وراء هذا التوظيف.

ويرى الخطيب الإسكافي (ت 420 هـ) أنه " إذا أورد الحكيم – تقدست أسماؤه – آية على لفظة مخصوصة، ثم أعادها في موضع آخر من القرآن وقد غير فيها لفظة عما كانت عليه في الأولى، فلابد من حكمة هناك تطلب، وإن أدركتموها فقد ظفرتم، وإن لم تدركموها فليس لأنه لا حكمة هناك بل جهلتم " ().

إن عدم الاستطاعة لبلوغ هذه الحكمة العليا ليس إلا عيبا فينا، لأننا لم نتسلح بما يجب من وسائل وأدوات للوصول إليها، فما حجب الغمام للشمس معناه انتفاء وجودها، لكنه مشعر بمشقة رؤيتها.

ومن الجميل هنا في هذا المقام أن نطالع خاطرات العلماء؛ (نحويين وبلاغيين) حول هذه المواضع، كلٌّ يُعمل ذوقه لا عقله لإدراك كنه هذه التنويعات السياقية للألفاظ بالتقديم تارة، وبالتأخير تارة أخرى، مما شكل لنا تراثا ذوقيا تحليليا لهذه المواضع، نرى فيه اجتهادات تقترب أو تبتعد عن مناط الاستحسان، لكن يبقى لهم دوما فضل الاجتهاد.

ولعل توظيف هذا اللون من البلاغة على هذا النسق الإعجازي يكون بمثابة المنبه القوي للعلماء - على اختلاف زوايا نظرهم إلى النص القرآني – بأن بحوثهم لابد وأن تبدأ أولاً من النص القرآني ثم تنتهي به. لابد لا أن تبدأ تلك البحوث بالتقريرات والتقعيدات ثم محاولة قياس النص في ضوء هذه التقريرات. فالذي يتضح جليا أن لهذا النص الجليل نمط من التوظيف غير ثابت، نمط متحرر بلاغيا وتركيبيا وسياقيا ودلاليا. نمط توظيف خاص به، وهذا أحد أوجه إعجاز هذا النص العظيم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير