تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

[الفروق الدلالية والسياقية للفظتي "جاء وأتى" في القرآن الكريم]

ـ[د. عبدالعزيز العمار]ــــــــ[23 - 08 - 2008, 09:47 م]ـ

من العلماء من لا يرى فرقاً بين لفظتي: "جاء، وأتى"، ويرى أنهما من المترادفات، فتراه يفسر الإتيان بالمجيء والمجيءَ بالإتيان (1)، بيد أن هناك فروقاً بين هاتين اللفظتين؛ إذ تختص كل واحدة منهما بدلالة عن الأخرى، وبإيحاء ليس في أختها، فقد وردت هاتان اللفظتان في كتاب الله كثيراً، و لكل واحدة منهما موضعها المناسب، وسياقها الملائم، مما يستحيل معه أن تأخذ كل واحدة منهما موضع الأخرى، وقد تنبه كثير من العلماء إلى ما بين اللفظتين من فروق، فأشاروا إليها، وذكروها في مواضعها، ومن ذلك ما يفرده بعض العلماء في مصنفاتهم فصولاً تحت عنوان (ألفاظ يُظن بها الترادف وليست منه) ويذكرون من هذه الألفاظ لفظتي: جاء وأتى (2)، ثم يذكرون ما بينهما من فروق.

ومن الفروق بين هاتين اللفظتين ما يلي: أول فرق يُلحظ بينهما ما يتعلق بالجانب الإيقاعي في نطق اللفظتين، وذلك أن لفظة (أتى) أخف في النطق من (جاء) بما فيها من ثقل المد وإطالة الصوت به (3)، ولعل هذا السبب هو السرّ في أن لفظة (جاء) لم تأتِ في القرآن إلاَّ بهذه الصيغة، بخلاف لفظة (أتى) فقد جاء الماضي منها والمضارع والأمر، فقد جاء في القرآن (أتى، يأتي، أئتِ، يأتون، فأتنا، فأتوا) بخلاف اللفظة الأخرى التي لم تأتِ في القرآن إلاّ بصيغة المضي (4)، ولا مراء في أن لفظة (يأتي) أخف من لفظة (يجيء).

فهذا فرق بينهما يتعلق بالجانب الإيقاعي، بيد أن هذا الفارق لا يكاد يُذكر أمام الفروق المعنوية بين هاتين اللفظتين، فقد اختصت كل واحدة من هاتين اللفظتين بمعاني لا تشاركها الأخرى فيها، يدل على هذا الأمر استعمال القرآن لهاتين اللفظتين في مقامات متعددة، وفي سياقات مختلفة، ومن خلال استقراء لتلك المقامات، والنظر في تلك السياقات تتبين بعض الفروق بين هاتين اللفظتين.

ومن هذه الفروق ما يلي:

أولاً: أن لفظة (جاء) تأتي - غالباً - مع الأعيان والأمور المشاهدة المحسوسة، بخلاف لفظة (أتى) فإنها تأتي مع المعاني المعنوية التي لا تُشاهد، يدل على هذا أمثلة كثيرة من كتاب الله، ومن ذلك قوله {ولمن جاء به حمل بعير ... } [يوسف: 72]، يعني صواع الملك؛ وهو عين، وقوله {وجاءوا على قميصه بدم كذب ... } [يوسف: 18] (5)، ولهذا فرَّق بينهما - سبحانه - في قوله {قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون * وأتيناك بالحق وإنا لصادقون} [الحجر: 63 - 64] فقد جاءت لفظة {جئناك}؛ لأنها للعذاب وهو مشاهد، بخلاف {الحق} فليس مرئياً فجاءت معه لفظة {أتيناك}. (6)

ثانياً: ما قام به أحد الباحثين (7) باستقراء مواضع كل من (جاء) و (أتى) في القرآن الكريم، وبعد نظر وتأمل لهذا الاستقراء في مواضعهما توصل إلى أن (جاء) لا تُستعمل في القرآن إلاَّ دليلاً على القرب، سواء كان هذا القرب زمانياً أو مكانياً بخلاف لفظة (أتى) فإنها لاتُستخدم في القرآن إلاّ دليلاً على البعد، سواء كان هذا البعد، زمانياً أو مكانياً أو نفسياً، ثم ذكر بعد ذلك الشواهد الكثيرة من القرآن التي تؤيد ما ذهب إليه، ومن هذه الشواهد قوله {فأتتْ به قومها تحمله قالوا يامريم لقد جئت شيئاً فرياً} [مريم: 27]، فقد أقبلت عليهم به من مكانها القصي البعيد، فعُبِّر عن ذلك بلفظة {أتت} ثم قالوا منكرين عليها بلفظة {جئت}؛ لأنها حينما وصلت إلى قومها كان عيسى:= قريباً منهم، فقد كانت حاملته بين يديها، ومن الشواهد - أيضاً - قوله - تعالى - {وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن ... } [يوسف: 50] فقد جاءت - أولاً- لفظة {أتى}؛ بسبب ما بين مكان يوسف:= ومكان الملك من بعد؛ إذ كان يوسف في السجن، وما أبعد السجنَ عن قصر الملك، ثم جاءت - ثانياً - لفظة {جاءه}؛ وذلك لقرب يوسف وقتها من الملك، فقد كان ماثلاً بين يديه، ومن الأمثلة - أيضاً - على ذلك قوله - تعالى - في حديثه عن القرآن {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد} [فصلت: 42] فقد جاءت هذه اللفظة {لا يأتيه}؛ وذلك لبعد حدوث هذا الأمر، بل لانتفاء وقوعه

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير