تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

من قوله تعالى: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ

ـ[مهاجر]ــــــــ[13 - 08 - 2008, 07:15 ص]ـ

من قوله تعالى: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا).

أينما: أداة شرط تفيد عموما مؤكدا بـ: "ما"، فـ:

والموت آت والنفوس نفائس ******* والمستعز بما لديه الأحمق

وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ: احتراس، فلا يرد حذرٌ قدراً.

وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ:

"حسنة": نكرة في سياق الشرط فتفيد العموم، و "من" لابتداء الغاية، فالحسنة، مبدؤها من الله، عز وجل، خلقا وإيجادا، وهذا حق، ولكنهم قصدوا به باطلا في هذا الموضع، كما سيأتي إن شاء الله.

وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ: نكرة أخرى: "سيئة" في سياق الشرط، فتفيد عموما، زعموه، فإن السيئة، بزعمهم، مبدؤها من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ: إبطال لقولهم: فكلٌ من عند الله، باعتبار قدره الكوني، فالحسنة والسيئة مبدؤها كلمات الله، عز وجل، الكونيات، وهذا قيد مانع يزيل إشكال التعارض المتوهم، بادي الرأي بين هذه الآية، والآية التالية.

فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا: استفهام إنكاري.

مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ: فالحسنة تنسب إلى الله، عز وجل، شرعا وكونا، فهو الذي شرع أسبابها، وحض عباده على مباشرتها، وخلق قدرة العبد على إيجادها، وألهمه فعلها، فهو خالقه وخالق فعله، مع كون العبد ذا قدرة مؤثرة يتعلق بها الثواب والعقاب. فالرب خالق، والعبد فاعل.

وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ: نسبة الشر إلى فاعله، تأدبا مع خالقه، فالله، عز وجل، نهى عنه شرعا، وإن قدره كونا، فهو مراد لغيره، إذ الشر في المقدور لا القدر، فقدر الله، عز وجل، خير كله، فالمصلحة الكلية من إيجاد الشر تفوق مفسدته الجزئية، بل إن خلق: إبليس، عياذا بالله منه، على ما فيه من شر، لا يقارن بالمصالح الشرعية المترتبة على إيجاده، فبه برزت طاعات وظهرت عبوديات ما كانت لتظهر لولاه، فكم من مجاهد قد قهر وساوسه، وكم من موحد قد أبطل ملته، وكم من صاحب سنة قد أمات نحلته.

وبتتبع آي الكتاب العزيز نجد أن الشر، كما استقرأ بعض المحققين، إما:

أن يدخل في عموم الخلق، كما في قوله تعالى: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ).

أو ينسب إلى فاعله، وإن كان الرب، جل وعلا، موجده وموجد فاعله، كما في قوله تعالى: (مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ)، فالشر في الخلق بمعنى المخلوق، لا الخلق بمعنى المصدر.

أو يحذف فاعله تأدبا مع الله، عز وجل، كما في قوله تعالى: (وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا)، فحذفوا الفاعل في الشر تنزيها، وأظهروه في الخير تعظيما، وإن كان الرب، جل وعلا، موجدَ كليهما بكلماته الكونيات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر.

وبهذا التفصيل يظهر الفرق بين:

قوله تعالى: (قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ)، باعتباره فعل الله، عز وجل، فهو موجده كونا.

وقوله تعالى: (قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ)، باعتبار فعلكم، فقد أمرتم بالطاعة شرعا، فلم تمتثلوا فصحت نسبة الشر إليكم على جهة الفعل لا الخلق، فالله، عز وجل، هو خالق الذوات وأفعالها: إن خيرا وإن شرا.

يقول شيخ الإسلام، رحمه الله، في "جامع الرسائل":

"كلمات الله تعالى نوعان: كلمات كونية، وكلمات دينية.

فكلماته الكونية هي التي استعاذ بها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر وقال سبحانه: (إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون)، وقال تعالى: (وتمت كلمات ربك صدقاً وعدلاً)، والكون كله داخل تحت هذه الكلمات وسائر الخوارق الكشفية التأثيرية.

والنوع الثاني: الكلمات الدينية وهي القرآن وشرع الله الذي بعث به رسوله وهي: أمره ونهيه وخبره، وحظ العبد منها العلم بها والعمل، والأمر بما أمر الله به". اهـ

وبه، أيضا، يزول الإشكال في نحو:

قوله تعالى: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا)، فأمر المترفين بالفسق في هذه الآية: أمر كوني لا شرعي، فإن الله، عز وجل: (لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ).

وقال بعض أهل العلم: الأمر، على بابه: شرعي، وفي الكلام حذف دل عليه السياق: "دلالة اقتضاء"، فتقدير الكلام: أمرنا مترفيها بالطاعة فلم يمتثلوا بل فسقوا فيها ........... ، ودلالة الاقتضاء مما يفزع إليه في مثل هذه المضائق، فبها تزول كثير من الإشكالات السياقية، وهذا اختيار الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، رحمه الله، في "أضواء البيان".

وتتبع مادة الأمر والقضاء والإرادة والمشيئة بأنواعها: الكونية والشرعية مما يزيد هذه المسألة الجليلة بيانا وإيضاحا.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير