[تلوينات الحذف في القراءات القرآنية]
ـ[ابن عبد العزيز الرجداوي]ــــــــ[01 - 08 - 2008, 12:11 ص]ـ
[تلوينات الحذف في القراءات القرآنية]
دكتور
أسامة عبد العزيز جاب الله
كلية الآداب – جامعة كفر الشيخ
يتعاضد سياق الحذف في الأداء التعبيري مع مقتضى الأغراض، وسياق الحال والمقام، وذلك قصداً لما يُعْرَف بالتعمد في الأداء، ذلك لأن هذه القصدية شرط لوجود أي إبداع حقيقي في سياق اللغة (). وبنية الحذف يتم توظيفها دلالياً في سياق القراءات القرآنية قصداً إلى إبراز دلالات محددة في هذه السياقات، وذلك إنما يتم في إطار تعاضد كلي مع هذه السياقات.
وتتعدد بنية الحذف في سياق القراءات القرآنية ما بين حذف لأحد حروف الكلمة، أو للكلمة بكل مواقعها الإعرابية كالمسند والمسند إليه والمفعول والمضاف والصفة وغير ذلك، تعالقًا مع هذه السياقات، وأداءً لأغراض ومقاصد دلالية وبلاغية فيها.
* فمن ذلك ما نلمسه في قراءة كلمة (مالك) () في قوله تعالى: ? وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ ? ().
وحذف الكاف من كلمة (مالك) على الترخيم في النداء. يقول ابن جني: " هذا المذهب المألوف في الترخيم، إلا أن في هذا الموضع سراً جديداً، وذلك أنهم لعظم ما هم عليه، ضعفت قواهم، وذلَّت أنفسهم، وصغُر كلامهم، فكأنّ هذا من مواضع الاختصار ضرورة عليه، ووقوفاً دون تجاوزه إلى ما يستعمله المالك لقوله، القادر على التصرّف في منطقه " (). فهذا الحذف الترخيمي جاء مراعاة لحال أهل النار لما هم فيه من عذاب، فعجزوا عن إتمام الكلام.
ويرى ابن عباس - فيما نُقِلَ عنه - إنكار هذه القراءة بقوله: ما أشغل أهل النار عن الترخيم ()، إذ في الترخيم سياق تدليلي ترويحي لا يجده أهل النار. لكن يمكن القول إنّ الكلام المرخّم هنا يُحتَمَل أداؤه في هذا الإطار إمعاناً في شدة عذابهم، وتصويراً لما يعاينوه من أهوال.
* ومن ذلك قراءة كلمة (يصدر) () في قوله تعالى: ? وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ? ()، في التدليل على حذف المفعول به.
فقراءة الفعل (يَصْدُر) على معنى اكتفاء الفعل بفاعله دون تعديه لمفعول به، وتمام المعنى قبل ذكر هذا المفعول. يقول أبو زرعة: " المراد من ذلك حتى ينصرف الرعاء من الماء، ولو كان (يُصْدِرَ) كان الوجه أن يُذْكَرَ المفعول فيقول: (حتى يُصْدِرَ الرعاءُ ماشيَتَهم)، فلما لم يذكر مع الفعل المفعول، عُلِمَ أنه غير واقع، وأنه (يَصدُر الرعاء) بمعنى ينصرفون عن الماء " ().
أما قراءة الكلمة على الوجه (يُصْدِرَ) فعلى حذف المفعول به، أي: (يُصْدِرَ الرعاءُ ماشيَتَهم)، وما لهذا الحذف من بلاغة تتسق في سياق تراكب المعاني في هذه الآية (). فحذف المفعول هنا على دلالة الاهتمام بالمذكور لا المحذوف، أي الاهتمام بالفعل دون التطرق إلى من وقع عليه هذا الفعل.
* ومن ذلك قراءة كلمة (أحلّ) () في قوله تعالى: ? وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ? ().
فقراءة الفعل بالبناء للمجهول على اعتبار المسند إليه (الدال على لفظ الجلالة) محذوفاً. وهذا الحذف تمّ هنا للاتساق والانسجام التعبيري مع بناء الفعل (حُرِّمَت) للمجهول في صدر الآية السابقة، وبذلك يتحقق التناسب المعنوي، والتشاكل التعبيري في الآية ().
¥