تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

[أثر التلوين الصوتي في انتقاء الكلمة القرآنية]

ـ[ابن عبد العزيز الرجداوي]ــــــــ[06 - 07 - 2008, 12:37 ص]ـ

[أثر التلوين الصوتي في انتقاء الكلمة القرآنية]

دكتور

أسامة عبد العزيز جاب الله

كلية الآداب – جامعة كفر الشيخ

في البدء يجب أن نقر بأن كل لفظ في النص القرآني قد وُضِعَ في موضعه المناسب تماماً كما أراد المولى - سبحانه وتعالى-، وهذا الترتيب في ذاته سر إعجازي فوق بقية الأسرار، فقرار اللفظ في مكانه متشابكاً مع سابقه ولاحقه في إطار منظومة سياقية نصية جمالية تقوم على هذا النسج القرآني للقرآن، وتتساوق معاً لأداء ما يراد من أغراض ومقاصد. وهذه الألفاظ القرآنية لم تُخْتَرْ اعتباطاً، أو توظف عبثاً بلا قصد، بل القصد كل القصد هو توظيفها في أماكنها المناسبة في ضوء ما يهدف من ورائها من مقاصد هي عين التوظيف.

ويرى د. أحمد أبو زيد أن " الكلمة القرآنية تختار بدقة متناهية، وتوضع في موضعها من الآية بإحكام تام يجمع لها بين مناسبة السياق القريب، ومناسبة السياق البعيد، وليس هناك أي تعارض بينهما " ().

ومن أدلة ما نقصده هنا ما نلمسه في سياق الآيات التالية من سورة الحج، يقول تعالى: ? هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ ? ()، فالمشهد هنا عنيف ترتسم فيه مشاهد متنوعة من تقطيع الثياب من النار للمعذَّبين، ومن صب النار فوق الرؤوس ليصهر به ما في البطون والأمعاء والجلود، ثم ما أُعِدَّ لهم من مقامع مصنوعة من الحديد الذي ليس بحديد كالحديد.

وقد رُسِمَت هذه الصورة بالألفاظ المناسبة التي تألفت من الأصوات القوية والشديدة كالطاء المشددة، والقاف المضمومة في كلمة (قُطِّعَت)، والباء المشددة المضمومة، والصاد كلمة (يُصَبّ)، والهمزة المضمومة في كلمة (رؤوسهم)، والباء والطاء المضمومتين في كلمة (بطونهم)، والجيم المضمومة في كلمتي (الجلود) و (أن يخرجوا)، الدال المكسورة في كلمة (من حديد)، والذال المضمومة في كلمة (ذوقوا). كما أن صوت القلقلة الذي يتكرر في حروف الفاصلة في الآيات وهو الدال عامل إيقاعي مهم في إبراز هذه اللوحة.

وهكذا تتجمع الألفاظ بأصواتها في سياق تصويري رائع، يضاف إليه صفات هذه الأصوات كالجهر والشدة والاستعلاء والتفخيم والإطباق والقلقلة، وكلها من صفات القوة في الأصوات، بما يتوافق مع سياق الآية و الأداء التعبيري فيها. كما توزيع الحركات في هذا الإطار يعبر أيضاً عن عنف المشهد، فما الضمة والكسرة والتشديد بكل أجراسها القوية إلا عامل تجميلي لهذا السياق.

وانطلاقاً من الإقرار بهذه الدقة المتناهية في انتقاء الكلمة القرآنية وتوظيفها في سياقها النص، وأدائها للوظائف الجمالية المرادة منها، فإن ذلك يثسلمنا بالتأكيد إلى البحث في معايير هذا الانتقاء، والتفتيش عن الكيفية التي تمت بها صياغة الكلمة القرآنية، وذلك من خلال التنقيب عن الأداة التي تمت بها هذه الصياغة، وفرضيات التلاؤم والتنافر الحرفي المكون لهذه الكلمة. كذلك يفرض هذا علينا التعرض للكلمة في طولها الحرفي، وما يفيده ذلك من دلالات في السياق القريب والبعيد للكلمة والآية ثم السورة أيضاً. كما أن ملاحظة هذا الانتقاء للكلمة في الهيئات المختلفة يعدُّ أمراً ملحاً على مستوى إدراك الكلمة في حالة تعريفها أو تنكيرها، كذلك بيان الحالة التوظيفية لهذه الكلمة من حيث العدد.

ومحاولة البحث والتفتيش بهذا الشكل تحاط بمنظومة لغوية متكاملة تعتمد بالمقام الأول على المعطى الصوتي الذي هو بوصلة التوجيه لهذا الانتقاء، ثم تعاضد بقية معطيات اللغة من نحو وصرف ودلالة. وما محاولة الكشف عن هذه الجماليات إلا بحث في المرحلة الأولى من حياة الكلمة القرآنية، وهي مرحلة التشكيل، وهذا ما نحاول الولوج فيه الآن.

1 - التلاؤم والتنافر في الكلمة القرآنية:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير