تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

تأملاتٌ في قولِه - تعالى -: " ولا تحسبنَّ اللهَ غافلاً عما يعملُ الظالمون ... "

ـ[ندى الرميح]ــــــــ[07 - 08 - 2008, 10:03 م]ـ

:::

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

من تأمّلاتي في الآية الكريمة:

قال تعالى: " ولا تحسبنَّ اللهَ غافلاً عما يعملُ الظالمون إنما يؤخرُهم ليومٍ تشخصُ فيه الأبصار " [إبراهيم: 42].

أول ما يلفت النظر في الآية، هو: ابتدارها بالخطاب المؤطر بالنهي: (ولا تحسبن الله غافلاً)، وقد دار حول هذا الخطاب، ولمن تم توجيهه آراء واجتهادات:

فمن أهل العلم: من ذكر أن الخطاب موجه إلى النبي ــ:= ــ، ومنهم: من ذكر أن الخطاب لغير معين؛ لاستحالة حسبان الرسول ــ:= ــ الله موصوفًا بالغفلة عن الظالمين (1).

و أراني أميل إلى أن الخطاب للنبي ــ:= ــ؛ أريد به: تسليته، وتثبيته، وبث نسائم التعزية إلى نفسه الكريمة؛ للترويح عنها، وتخفيف ما يواجهها من صنوف الأذى، و ألوان التعذيب.

ولا يُتصور ــ مع هذا الفرض ــ ما تراءى لبعضهم من حصول لبس ينافي مقام النبوة، وهو حسبان الرسول ــ:= ــ الله غافلاً عما يعمل الظالمون ــ تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا ــ؛ لأن لمثل هذا الخطاب نظائر كثيرة في القرآن الكريم؛ فقد تواترت الآيات الكريمة بألوان الخطاب للرسول ــ:= ــ مؤدية الغرض ذاته، وهو تثبيت فؤاده، والترويح عن خاطره، نحو قوله

ــ تعالى ــ: " ولا تكوننَّ من المشركين " [الأنعام: 14]، ونحو: " ولا تدعُ مع اللهِ إلهًا آخر " [القصص: 88]، وغير ذلك.

ومما يعضّد كون الخطاب موجهًا إلى النبي ــ:= ــ: عطف ما بعده عليه، وهو قوله: " وأنذرِ الناسَ يوم يأتيهم العذاب ... " الآية [إبراهيم: 44]، إذ لا خلاف أن المخاطب بفعل الإنذار هو النبي الكريم.

على أنه لا يمنع أن يستصحب خطاب النبي ــ:= ــ التعريض بالمشركين من أمته، قصد منه: تهديدهم، ووعيدهم ببيان عاقبة ظلمهم، و إطلاعهم على أن الله ــ جل شأنه ــ عالم بالقليل والكثير مما يعملون، وإنذارهم بألا يغتروا بسلامتهم وأمنهم؛ لأن ذلك مصيره إلى زوال.

و من منطلق هذا التعريض، فإن النهي بقوله: (ولا تحسبن) خرج إلى معنى: بيان عاقبة الظلم، وهي: العذاب لا الغفلة، مؤكدًا هذه العاقبة بالنون المثقلة التي ألقت على التعبير ظلاً أكسب التهديد تغليظًا، والتوعد تأكيدًا، بأخذهم الأخذة الأخيرة، التي لا إمهال بعدها، ولا فكاك منها.

ويمكن الاستئناس برأي الشيخ بهاء الدين السبكي في توجيهه لهذا الخطاب، مما يدعوني إلى الاطمئنان لما ذهبت إليه؛ حيث قال:

" وعُلل بأن النبي لا يخاطب بمثل ذلك. قلت: النبي ــ:= ــ منهي عن كل ما نهي عنه غيره، إلا ما خص، و أما خطابه بذلك ــ مع القطع بأنه لا يصدر منه ــ فلعله ليُعلم أن غيره منهي عنه من باب أولى " (2).

و لأبي السعود لمحة لافتة في بناء الخطاب على هذا النحو، حيث قال عن إيحائه: " فيه من الإيذان بكونه واجب الاحتراز عنه في الغاية حتى نُهي عنه من لا يمكن تعاطيه " (3).

(1) ينظر في توجيه الخطاب: تفسير الكشاف: (2/ 541)، والتفسير الكبير: (19/ 111)، والبحر المحيط: (5/ 424)، وغيرها.

(2) عروس الأفراح: (2/ 559).

(3) تفسير أبي السعود: (3/ 496).

ـ[ندى الرميح]ــــــــ[07 - 08 - 2008, 10:12 م]ـ

وللنظم الكريم تفرّد في رسم المواقف والمشاهد بدقة بالغة، والتعبير عنها كأنها مشاهدة ملموسة، وكثيرًا ما تتجلى تلك الروعة الآسرة في تصويره لمشاهد القيامة، متخذًا ــ في كل مرة ــ شكلاً فريدًا من الأداء، لا تملك العقول إزاءه إلا التسليم به، والقلوب إلا أن تتملاه، وتنعم فيه النظر.

إن وصف يوم القيامة بأنه يوم تشخص فيه الأبصار، يملي على الفكر التريث؛ لتبينه، وإدراكه، ومحاولة استكناهه، والوصول إلى سر روعته وبيانه، فكأن الأداء القرآني ينقلنا ــ بهذا الوصف ــ إلى مشهد القيامة، ويشخصه كأنه محسوس مشاهد، فنتأمل الجموع المحشورة، والوجوه الواجمة الذاهلة، والأبصار المشدوهة الشاخصة التي لا تطرف، ولا تغمض من هول ما يقع ويحصل.

فالتعبير بشخوص البصر كناية واضحة عن ذهول مازَجَه خوفٌ شديد، وهلعٌ عظيم.

جاء في اللسان: " شخص بصر فلان، فهو شاخص: إذا فتح عينيه، وجعل لا يطرف ..... وشخوص البصر: ارتفاع الأجفان إلى فوق، وتحديد النظر، وانزعاجه " (1)

وهو تعبير يستعمل في الأمر البالغ الغاية من القلق والحيرة:

" شُخِص بفلان: إذا ورد عليه أمر أقلقه " (2)

و إيراد الفعل مضارعًا: (تشخص) أفاد: استحضار تلك الصورة الفظيعة، وتشخيصها في النفوس؛ لتبقى حاضرة في الخيال.

والمتبادر إلى الأذهان، أن التعريف في قوله: (الأبصار) للعهد (3)، أي: تشخص فيه أبصار الظالمين، وهو الأوفق بالسياق القاضي بتصوير حال أولئك في ذلك اليوم العصيب.

(1) لسان العرب: (7/ 46) (ش. خ. ص).

(2) أساس البلاغة: (323).

(3) ينظر: حاشية القونوي: (11/ 95 - 96).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير