تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

[وقفات بلاغية مع آيات الصيام (1)]

ـ[د. عبدالعزيز العمار]ــــــــ[02 - 09 - 2008, 05:36 م]ـ

إلى الأخوة الفضلاء في هذا الملتقى المبارك؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فيسرني

أن أشارك بهذه المشاركة، ولها في نفسي مكانة سامقة، ومنزلة عالية؛ وذلك لسببين، الأولى: أنها تتحدث عن آيات الصيام، ونحن في شهر رمضان المبارك، وأدعوه – سبحانه – أن يتقبل منا الصيام والقيام، وأن يجعلنا ممن يصوم ويقوم إيماناً واحتساباً. الثاني: أن هذه المشاركة في البلاغة القرآنية، تلك البلاغة التي شرفتُ بالانتساب إليها، والانضواء تحت لوائها، وقد شغفت بها وتعلقت، وقد قضيت شطراً من عمري في القراءة فيها، وإنعام النظر في آيات هذا الكتاب العزيز تأملا وتدبراً؛ للوقوف عند درر بيانه، وفرائد فصاحته، بيد أن عجائب هذا الكتاب لا تنقضي، كما أن فيه مطمعاً للراغبين، ومنهلا للواردين، فإن نبعه لم ينضب ولن ينضب، فحيّّ هلا ثم أهلا فإن المستشرف عزيز والغاية نبيلة، والله من وراء القصد.

(يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ?

استُفتحتْ آيات الصيام بنداء المؤمنين في قوله ? يا أيها الذين آمنو ?، وفي ذلك مزيد عناية بهم، وتشريف لهم بوصفهم بالإيمان، ومناداتهم به، كما أن في ذلك توطئة لأمرهم بالصيام، وتهيئة نفوسهم لتقبل هذه الأحكام، ومن ثَم العمل بها، فكأنه يقول لهم: لأنكم مؤمنون منقادون مسلمون، فقد أمرتكم بالصيام، وفرضته عليكم، ومن لوازم إيمانهم بربهم، وإذعانهم له قبولهم هذه الأحكام، والعمل بها، والرضا التام بها، ولذا فلسان حالهم يقول: سمعنا وأطعنا، ومن هنا جاء مناداتهم بالإيمان في هذا المقام إشارة إلى المعنى، ودلالة عليه، ولعل هذا هو السرّ في ورود النداء مع كثير من الأحكام الشرعية، كما تجلى ذلك في آيات القصاص، وفي غيرها من الأحكام الشرعية.

وفي إسناد الفعل ? كُتب ? إلى مالم يُسمَّ فاعله لطيفة مهمة، وإشارة بالغة في مقام الأمر والتكليف، فقد حُذف الفاعل؛ وذلك لأسرار بلاغية؛ وذلك للعلم به، وهو الله – سبحانه وتعالى -، فهو وحده الذي يكلف عباده، بيد أن ثمة سراً لطيفاً في مجيئه بهذه الصورة، وبيان ذلك: أن في هذه الآيات تكليفاً شاقاً على نفوس المؤمنين؛ وذلك أن فيه منعاً لهم من التمتع بملاذ الأكل والشرب، كما أن فيه منعاً لهم من التمتع بالنساء، فكان من البلاغة في ذلك ألاَّ تُنسب هذه التكاليف الشاقة إليه – سبحانه -، فهو أهل المغفرة والرحمة، ولعل هذا هو السرّ في مجيء لفظة ? كُتب ? بهذه الصيغة في كثير من التكاليف الشرعية، كما تجلى ذلك في آيات القصاص في قوله ?يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ... ?، وكذلك في آيات الوصية في قوله ? كُتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف? ... ?، ومن العجيب في هذا الباب - وذلك سرٌّ من أسرار القرآن الكريم، ولطيفة من لطائف البيان كما يذكر ذلك أبو حيان الأندلسي (1) – مجيء لفظة " كَتَبَ " مبنية للمعلوم في سياق الامتنان والرحمة بالمؤمنين، ومن ذلك قوله ? كَتبَ ربكم على نفسه الرحمة ... ? (2)، وقوله ? كتب الله لأغلبن أنا ورسلي ... ? (3)، وقوله ? أولئك كتب في قلوبهم الإيمان ... ? (4) وغيرها من الآيات.

وفي تقدم الجار والمجرور " عليكم" على كلمة " الصيام" في قوله ? كُتب عليكم الصيام ? في ذلك إشارة إلى الاهتمام بأمر المؤمنين، ومزيد عناية بهم وحفاوة؛ وذلك أن الأمر يخصهم، فهم المأمورون بالصيام، فهم الذين قد كُلفوا بذلك، وهم الذين ناداهم ربهم في هذا السياق، كما أن في تأخير لفظة "الصيام" تشويقاً لها، فستظل نفوس المؤمنين مترقبة لها، منتظرة الأمر، فيأتي الأمر بعد ترقب وتشوق، وحينها يستقر الأمر في وجدانها، وتعتنقه أتم اعتناق، وتقوم به على الوجه المطلوب منها في الأداء.

وقد تضمن قوله ? كُتب عليكم ? اِلإيجاب القاطع، والدلالة النصية بفرضية الصيام على المؤمنين، ففي لفظة "كُتب" الإشارة إلى الوجوب، وذلك أن معنى ? كُتب عليكم ? أي فُرض عليكم، وذلك هو معنى الكلمة في القرآن الكريم حيثما وقعت فيه كما يذكر ذلك الفراء. (5)

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير