[التلوين بالتعريف والتنكير في القراءات القرآنية]
ـ[ابن عبد العزيز الرجداوي]ــــــــ[27 - 07 - 2008, 05:43 م]ـ
[التلوين بالتعريف والتنكير في القراءات القرآنية]
دكتور
أسامة عبد العزيز جاب الله
كلية الآداب – جامعة كفر الشيخ – مصر
قد يكون التعبير بالنكرة مقصوداً في موضع معيَّن من السياق، ولا يؤدي معناها لفظ آخر في هذا المقام، ذلك لأن مقتضيات السياق ومحدّدات المعنى هي الأساس الأول الذي تعتمد عليه إنشائية التراكيب في العربية. والأمر ذاته ينطبق على مواضع اختيار المفردة في التعريف في هذه السياقات التركيبية.
ومبدأ المصادفة لا يمكن أن يُؤْخَذ به في مثل هذه السياقات، لأن المصادفة معناها فشل المبدع في السيطرة على نصه، واعتماده مبدأ العشوائية أساساً لإبداعه الذي لا يستحق حينئذ الوصف بأنه إبداع، وهذا في كلام البشر، فما بالنا بكلام رب البشر.
وقد سبق الحديث عن فنية التوظيف الجمالي التي سار عليها النص القرآني في توظيفه لسياقات التعريف والتنكير داخل البنى التركيبية للنص القرآني. يقول د. صلاح الخالدي: " إنّ مجيء لفظ في القرآن معرفة، ومجيء لفظ آخر نكرة، ومجيء لفظ في موضع معرفة ونكرة في موضع آخر، لم يكن مصادفة في القرآن، إنما هو مقصود في كل موضع، وجيء به على تلك الحالة لينسجم مع السياق الذي ورد فيه، ويتناسق معه " ().
وليس من سبيل إلى فهم أسرار هذا التلوين سوى تدبّر سبل الأداء لهذا السياق، ومفرداته التركيبية في ضوء النظم الكلي لهذه السياقات.
والقراءات القرآنية وظّفت هذه الفنية الجمالية بدقة متناهية، انسجمت مع محدّدات السياق ومتطلبات المعنى، وأثمرت في تعاضدها مع النسيج القرآني في إثراء الدلالة المبتغاة من توظيف مثل هذا التلوين بالتعريف والتنكير.
* فمن ذلك مثلاً قراءة كلمة (حياة) () بالتعريف والتنكير في قوله تعالى:? وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ ? (). فما الدلالات الجمالية التي يمكن الخروج بها من مثل هذا التلوين في الكلمة؟
إنّ قراءة الكلمة على التنكير (حياة) تستمد من سياقاتها الدلالة على التحقير، إذ إن اليهود أشدّ حرصاً على مثل هذه الحياة مهما تكن قيمتها، فهم أهل دنيا. ويرى الزمخشري أن مثل هذا التنكير للكلمة مبعثه إظهار شغفهم بهذه الحياة المنكرة: " لأنه أراد حياة مخصوصة، وهي الحياة المتطاولة " ().
وهذا التنكير للكلمة يفيد تصوير مدى الحرص الذي عليه اليهود لهذه الحياة، وتمنيهم أن لو امتدت بهم ألف سنة. وهم في هذا الحرص يريدون أي يحيوا أي حياة، ولا يهمهم نوعها أو ما فيها، فقط ما يهمهم هو أن يحيوها.
ويرى أبو حيان أن المعنى في الآية على تقدير حذف مضاف قبل كلمة (حياة)، أي: طول حياة، أو على تقدير حذف صفة، أي: حياة طويلة، حتى أنه " لو لم يقَدَّر حذف لصحّ المعنى، وهو أن يكون أحرص الناس على مطلق حياة، لأن من كان أحرص الناس على مطلق حياة، وهو تحققها بأدنى زمن، فلأن يكون أحرص على حياة واحدة أولى، وكانوا قد ذُمّوا بأنهم أشد الناس على حياة ولو ساعة واحدة " ().
ويعلل ابن النقيب التنكير بأنه من منطق أن هذا الحرص بأي صورة هو على الحياة المستقبلة، وليست الحياة عموماً في شتى صورها. يقول: " فائدة التنكير أن الحريص لا بد وأن يكون حيّاً، وحرصه لا يكون على الحياة الماضية والراهنة، بل على الحياة المستقبلة. ولماّ لم يكن الحرص متعلقاً بالحياة على الإطلاق بل بالحياة في بعض الأحوال، لا جرم جاءت بلفظ التنكير " ().
فبهذه المعاني والدلالات تُخَرَّّج قراءة الكلمة على التنكير، إفادة لدلالة التحقير لهذه الحياة أيا كان نوعها.
أما قراءة الكلمة بالتعريف (الحياة) في قراءة أبي بن كعب فإنها قائمة على ذكر المعهود لدى هؤلاء اليهود من الحياة الدنيا الدنيّة، أي أنّ التعريف هنا دالّ على تحديد نوعية هذه الحياة، وبيان حقارتها ().
ويرى عبد القاهر الجرجاني فائدة هذا التعريف لكلمة (الحياة) في الآية بأنه " يصلح حيث تراد الحياة على الإطلاق كقولنا: كلّ أحد يحبُّ الحياة، ويكره الموت. كذلك الحكم في الآية " ().
¥