تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

[دلالة اللفظ على أكثر من معنى.]

ـ[مهاجر]ــــــــ[19 - 06 - 2008, 08:50 ص]ـ

الجمع بين معنيين: أحدهما حقيقة والآخر مجاز في لفظ واحد، أو دلالة اللفظ في نفس السياق على أكثر من معنى، مسألة اختلف فيها أهل العلم، وقد اصطلحوا على تسميتها بـ: "عموم المجاز"، أو "عموم المشترك اللفظي"، وقد يصح إطلاق: "عموم المشترك" ليشمل المشترك اللفظي والمشترك المعنوي.

فمن صور الجمع بين الحقيقة والمجاز:

قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ)، ولا يتأتى ذلك إلا على على القول بأن: "من" حقيقة في ابتداء الغاية، مجاز في بقية معانيها، فتكون "من" في: "من طيبات": حقيقة في ابتداء الغاية، فابتداء غاية الإنفاق إنما يكون من المال المكتسب، مجازا، عند من يقول بالمجاز في "التبعيض"، فالواجب: إنفاق بعض هذا المال لا كله، كما دلت على ذلك نصوص مقادير الزكوات المشروعة، فصارت "من" دالة على أكثر من معنى في نفس الوقت، ولم يمتنع ذلك لعدم التعارض بل كلا المعنيين متمم للآخر.

ومنه قولك: اغتسلت من الجنابة: فإن "من": حقيقة في ابتداء الغاية، فهي سبب الغسل، والسبب ابتداء مُسَبَبِهِ، مجاز في السببية، فالجنابة سبب الغسل.

وفي قولك: ما معي من درهم: جمعت "من" بين ابتداء الغاية، فـ: ما معي من درهم فصاعدا، والتنصيص على عموم النفي.

ومن ذلك أيضا:

قوله تعالى: (فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ)، إذ اجتمع لـ: "حتى" معنيان:

الغاية، فيكون تقدير الكلام: إلى أن تفيء.

والتعليل، فيكون تقدير الكلام: لكي تفيء، ولم يمتنع ذلك أيضا لأن كليهما متمم للآخر.

وفي قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ)، فاستعمل اللفظ "يسجد" في سياق واحد:

تارة بحقيقته اللغوية العامة التي تفيد الخضوع المطلق، وهو أمر تشترك فيه كل الكائنات، فكلها مقهورة بأمر الله، عز وجل، الكوني الذي لا تبديل له.

وتارة بحقيقته الاصطلاحية الخاصة، وهي: السجود المعهود بوضع الجبهة على الأرض في الصلاة أو خارجها، فهو يتفق مع السجود الأول في معنى الخضوع الكلي المشترك، ولكنه يمتاز عنه بهيئة مخصوصة جعلته نوعا من أنواع الخضوع، فكأن الخضوع: جنس تندرج تحته أنواع منها: الخضوع بالجبهة، فصارت دائرة الحقيقة الاصطلاحية أضيق، وهو أمر مطرد في كل الحقائق التي نقلها الشارع، عز وجل، من اللغة إلى الاصطلاح.

وفي قوله تعالى: (نسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ)، لـ: "أنى" ثلاثة معان صح اجتماعها في هذا السياق:

فأنى تأتي بمعنى: "كيف" فيجوز للرجل الاستمتاع بأهله كيف شاء إلا أن يطأ في موضع أو زمن لا يحل له الوطأ فيه، ونفس السياق قد دل على ذلك ابتداء، فإن قرينة: "حرثكم": تدل على مقصود النكاح الأول: وهو ابتغاء الولد، ولا يكون ذلك إلا ببذر النطفة في أرض صالحة، فمن جامع في غير الموضع، أو بذر في زمن المانع، فإنه لا يصدق عليه أنه أتى حرثه، لأن المرأة في كلا الحالين ليست أرضا صالحة للحرث.

وتأتي بمعنى: "من أين"، فيجوز الإتيان من أي جهة، بنفس القيد السابق: قيد "حرثكم"، فيكون البذر في موضع الإنبات.

وتأتي بمعنى: "متى" فيجوز الاستمتاع في كل الأوقات إلا ما خصه الدليل من أوقات الأذى، والمعنى هنا، أيضا، مقيد بـ: "حرثكم"، فالمرأة، كما تقدم، ليست بأرض صالحة للبذر زمن الأذى، فإذا ارتفع الأذى حل الوطء وصار الرحم وعاء نقيا يقبل الحرث.

ومنه قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا)

فإن من أجود ما قيل في تفسير هذه الآية قول القائل: "جعل" هنا شرعية في "الرأفة والرحمة"، كونية في "الرهبانية"، فقد أراد الله، عز وجل، منهم الرأفة والرحمة شرعا، ولم يرد منهم الرهبانية لما فيها من التنطع المفضي إلى الملل والسآمة وترك العبادة، فقضى بوقوعها كونا، وإن لم يرضها شرعا، فاستعملت "جعل" في السياق الواحد بمعنيين مختلفين يفصلان النزاع في مسألة الأمر الشرعي والأمر الكوني.

وفي حديث هرقل وُصِف ابن الناطور بأنه: صَاحِبُ إِيلِيَاءَ وَهِرَقْلَ، فكانت صحبته إيلياء: مجازية، عند من يقول بالمجاز، بمعنى الوِلاية، بكسر الواو، وصحبته هرقل: حقيقية بمعنى: "الوَلاية" بفتح الواو.

وفي قول أبي الطيب:

تعرض لي السحاب وقد قفلنا ******* فقلت إليك عني إن معي السحابا

فالأول: حقيقة، والثاني: مجاز في كثرة العطاء عند من يقول بالمجاز، وقد جمعهما سياق واحد، دلت فيه القرائن على المعنى المراد من كليهما.

وهكذا بتقليب اللفظ الواحد على أكثر من وجه تظهر معان ثانوية تزيد المعنى الأصلي قوة وبيانا، وهذا من لطائف لغة العرب.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير