تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

تعاور المترادفات دلالياً في القرآن الكريم

ـ[ابن عبد العزيز الرجداوي]ــــــــ[08 - 07 - 2008, 01:24 ص]ـ

تعاور المترادفات دلالياً في القرآن الكريم

دكتور

أسامة عبد العزيز جاب الله

كلية الآداب - جامعة كفر الشيخ

لا شك في أن الامتياز الانتقائي الذي اتسم به القرآن الكريم في اختيار ألفاظه ومفرداته جعل أهل اللغة والبلاغة شغوفين بمحاولة الوقوف على فنيات هذه الألوان من الاختيارات، ومنبهرين بهذا الانتقاء الرائع، ومقرين بالعجز التام أمام هذا اللون من الإعجاز. يقول الجاحظ في وصف هذه الظاهرة: " قد يستخف الناس ألفاظاً ويستعملونها، وغيرها أحق بذلك منها. ألا ترى أن الله تبارك وتعالى لم يذكر في القرآن (الجوع) إلا في موضع العقاب، أو في موضع الفقر المدقع، والعجز الظاهر. والناس لا يذكرون (السَّغَب) ويذكرون (الجوع) في موضع القدرة والسلامة. وكذلك ذكر (المطر) لأنك لا تجد القرآن يلفظ به إلا في موضع الانتقام. والعامة وأكثر الخاصة لا يفصلون بين ذكر (المطر) وبين ذكر (الغيث). وإذا ذكر (سبع سماوات) لم يقل (الأرضين)، ألا تراه لا يجمع (الأرض) أرضين، ولا السمع (اسماعاً). والجاري على أفواه العامة غير ذلك، لا يتفقدون من الألفاظ ما هو أحق بالذكر، وأولى بالاستعمال " ().

فالجاحظ هنا يدرك بذائقته البلاغية مدى الارتباط الوثيق بين الاختيار للكلمات القرآنية، وبين الدلالة المتوخاة من وراء هذا الاختيار، وما توجيه الدلالة هنا إلا مراعاة نصية وسياقية لمحددات الاختيار التي تمت. فقد وجدنا الجاحظ يربط توظيف لفظ (الجوع) في القرآن الكريم بكونه مما يعبر به في مواضع التعذيب والعقاب مثلما نلمس ذلك في قوله تعالى: ? وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ? ()، وقوله تعالى: ? فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ? (). وهذا التعاضد السياقي إنما هو لمحة فريدة من ملاحظات الجاحظ في نص الآيات القرآنية التي تضمنت لفظ (الجوع).

كذلك وجدنا الجاحظ يربط بالمنهج ذاته بين مدلولات لفظ (المطر) وتوظيفه في سياقات العقاب أيضاً. وهذا ما نلمسه بوضوح في آيات القرآن الكريم كما في قوله تعالى: ? وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ? ()، وقوله تعالى: ? وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَاء مَطَرُ الْمُنذَرِينَ ? ().

وتلك اللمحات التي وقف عليها الجاحظ إنما هي خير دليل على ذوق الرجل في نظراته البلاغية في القرآن الكريم، وكيف أنه يربط بين الألفاظ بصوتياتها وتركب حروفها بما تؤديه من دلالات في سياقاتها الخاصة.

كما نلمس عند الإمام الخطابي إشارات دالة على أن وضع كل مفردة في مكانها الأمثل، وسياقها اللائق بها هو منا الفصاحة، وعمود البلاغة. يقول الخطابي: " اعلم أن عمود هذه البلاغة التي تجمع لها هذه الصفات هو وضع كل نوع من الألفاظ التي تشتمل على فصول الكلام موضعه الأخص والأشكل به؛ الذي إذا بُدِّلَ مكانه غيره، جاء منه إما تبدل في المعنى الذي يكون منه فساد الكلام، وإما ذهاب الرونق الذي يكون معه سقوط البلاغة، ذلك أن في الكلام ألفاظاً متقاربة في المعاني يحسب أكثر الناس أنها مترادفة متساوية في إفادة بيان مراد الخطاب، والأمر فيها وفي ترتيبها عند العلماء بخلاف ذلك، لأن لكل لفظة خاصية تتميز بها عن صاحبتها في بعض معانيها، وإن كانتا تشتركان في بعضها " ().

وهذا مدخل لطيف وذكي من الخطابي للحديث عن توظيف النص القرآني للمترادفات، وكيف أن اللفظة تحسن في مكان، ويحسن مرادفها في آخر، دون أن يكون هناك أي تعارض أو لبس. وما ذاك إلا لتعلق السياق باللفظة في هذا المكان، وتعلق سياق آخر بمرادفها. يقول الباقلاني: " أنت تحسب أن وضع لفظ (الصبح) موضع (الفجر) يحسن في كل كلام، إلا أن يكون شعراً أو سجعاً. وليس كذلك، فإن إحدى اللفظتين قد تنفر في موضع، وتزل عن مكان لا تزل عنه اللفظة الأخرى، بل تتمكن فيه، وتضرب بجرانها. وتجد الأخرى لو وضعت موضعها في محل نفار، ومرمى شراد، ونائية عن استقرار " ()

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير