وهكذا قوله تعالى: (فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى) [الليل: 5 - 7] فقوله كذب وصدق، وقوله اليسرى والعسرى من باب الطباق اللفظي، وقوله أعطى مع قوله بخل فإنّما هو من الطباق المعنوي لأنّ المعنى في أعطى كَرُمَ ليطابق بخل في معناه دون لفظه ..
الضرب الثالث: في مقابلة الشيء بما يخالفه من غير مضادّة، وذلك يأتي على وجهين:
الوجه الأول: أن يكون أحدهما مخالفاً للآخر، خلا أن بينهما مناسبة، وهذا نحو قوله تعالى: (إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا) [آل عمران: 120] فالمصيبة مخالفة للحسنة من غير مضادّة، إلا أنّ المصيبة لا تقارب الحسنة، وإنّما تقارب السيّئة، لأنّ كلّ مصيبة سيّئة وليس كلّ سيّئة مصيبة، فالتقارب بينهما من جهة العموم والخصوص ..
وهكذا قوله تعالى: (أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ) [الفتح: 29] فالرحمة ليست ضدّاً للشدّة، وإنّما ضدّ الشدّة اللين، خلا أنّه لمّا كانت الرحمة من مسبّبات اللين، حسُنت المطابقة وكانت المقابلة لائقة.
الوجه الثاني: ما لا يكون بينهما مقاربة وبينهما بُعد لا يتقاربان ولا مناسبة بينهما، ومثاله ما قاله أبو الطيب المتنبي:
لمَن تطلب الدّنيا إذا لم تُرد بها ... سرور مُحبّ أو إساءة مُجرمٍ
فالمقابلة الصحيحة أن تكون بين محبّ ومبغض، لا بين محبّ ومجرم، فإنّ بين المحبّ والمجرم تباعداً كبيراً، فإنّه ليس كلّ مَن أجرم إليك فهو مبغض لك .. وممّا يجري هذا المجرى ما قاله بعض الشعراء:
فكم مِن كريم قد مناه إلهُه ... بمذمومة الأخلاق واسعة الهَنِ
فقوله: بمذمومة الأخلاق واسعة الهَنِ، من باب المقابلة البعيدة التي لا مناسبة فيها وكان الأخلق (بضيّقة الأخلاق وساعة الهَنِ) ..
الضرب الرابع: المقابلة للشيء بما يماثله، وذلك يكون على وجهين:
الوجه الأول: مقابلة المفرد بالمفرد، كقوله تعالى: (وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا) [الشورى: 40]، وقوله تعالى: (هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ) [الرحمن: 60]، وقوله تعالى: (مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) [الروم: 44]، وغير ذلك من الأمور المفردة، فضابط المماثلة أنّ كلّ كلام كان مفتقراً إلى جواب يكون مماثلاً كما قرّرناه ..
الوجه الثاني: مقابلة الجملة بالجملة، كقوله تعالى: (وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [آل عمران: 54]، وقوله تعالى: (قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي) [سبأ: 50] .. فما هذا حاله من المقابلة في الوجهين جميعاً له حظّ في البلاغة، ومقصد عظيم لا يخفى على مَن له أدنى ذوق مستقيم ..
ولعلّ هذا التقسيم أقرب شيء إلى التقسيمات الحديثة التي تجعل المقابلة قسمين، قسم فيه تضادّ حقيقيّ بين الكلمات أو الجمل، وقسم آخر ليس فيه تضادّ حقيقيّ وإنّما تقابل بين الكلمات أو الجمل المتماثلة أو شبه تضادّ ..
ـ[القادري]ــــــــ[10 - 05 - 2008, 04:57 م]ـ
بارك الله فيك وسدد على طريق الحق خطاك
ـ[د/أم عبدالرحمن]ــــــــ[12 - 05 - 2008, 09:38 ص]ـ
بارك الله فيك على هذا التوضيح