تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

والإيقاع في القرآن الكريم صورة للتناسق الفني فيه، ومظهر من مظاهر تصوير معانيه، وآية من آيات الإعجاز الذي يتجلى في أسلوبه المتميز الرفيع. ويحوي القرآن الكريم إيقاعاً موسيقياً متعدد الأنواع ليؤدي وظائف جمالية متعددة إذ " إن الأثر الممتع للإيقاع ثلاثي: عقلي، وجمالي، ونفسي. أما العقلي فلتأكيده المستمر أن هناك نظاماً ودقة وهدفاً في العمل. وأما الجمالي فلأنه يخلق جواً من حالة التأمل الخيالي الذي يضفي نوعاً من الوجود الممتلئ في حالة شبه واعية على الموضوع كله. وأما النفسي فإن حياتنا إيقاعية: المشي والنوم والشهيق والزفير وانقباض القلب وانبساطه " ().

لقد جمع النسق القرآني بين مزايا الشعر والنثر، فهو قد تجاوز قيود القافية الموحدة والتفعيلات التامة، فنال بذلك حرية التعبير الكاملة عن جميع أغراضه العامة. وتضمن في الوقت ذاته من خصائص الشعر الموسيقى الداخلية، والفواصل المتقاربة في الوزن التي تغني عن التفاعيل، والتقفية التي تغني عن القوافي. فالموسيقى القرآنية إشعاع للنظم الخاص في كل موضع، وتابعة لقصر الفواصل وطولها. كما أنها تابعة لانسجام الحروف في الكلمة المفردة، ولانسجام الألفاظ في الفاصلة الواحدة (). فالعطاء الموسيقي في القرآن الكريم يأتي من اللغة إذ أن الموسيقى فيه لا تنبع من وزن شعري كالذي عرفناه في تفعيلات الشعر العربي، ولكنها تنبع من اللغة نفسها، وهي ائتلاف الأصوات في اللفظة الواحدة، وفي سياق الألفاظ وتناسقها وتناغمها وأدائها للمعنى ودلالتها عليه.

ولا شك أن الانتظام في الإيقاع النثري قابل للتحقق دون موازين الخليل , وأكبر دليل على ذلك النص القرآني. ولنتأمل سورة الإخلاص مثالاً على ذلك. يقول تعالى: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ) (). إن الانتظام هنا لا يتمثل في تكرار ظواهر صوتية معينة على مسافات معينة بقدر ما يتمثل في انتظام تزايد زخم الإيقاع النبري من نبرتين إلى أربع نبرات إلى خمس نبرات في الأخير، بعد أن كان استهل بنبرتين قويتين متتاليتين على الكلمتين (قل هو)، ونبرتين بعدهما على (الله أحد). أي أن النص شكل قدراً من التوازن أولاً ثم كسر هذا التوازن (أربع نبرات + نبرتين + أربع نبرات + خمس نبرات) خالقاً بذلك نسقه الإيقاعي الحاد حدة باترة من جهة، والمتلطف قليلاً من جهة أخرى (). ويمكننا أن نعد ذلك جوهر موقف القرآن الكريم من المذاهب التي تنسب لله ولداً. غير أن هذا الانتظام ليس له صيغة محددة تشترك بها نصوص عديدة , بل ينشأ حين ينشأ بنهج خاص بالنص الذي يحدث فيه. وينجلي ذلك بمقارنة إيقاع هذه السورة مع سور قصيرة مماثلة لها مثل سورة الناس , وسورة الفلق, وسورة المسد وغيرها.

إن منابع الإيقاع القرآني الظاهرة في العمل يمكن ردها إلى ما يأتي ():

1 - الموسيقى النابعة من تآلف أصوات الحروف في اللفظة الواحدة، كما لا يخفى أن الأصوات متفاوتة في الجرس يقرع بعضها بعضاً حين تجتمع في اللفظ، فينتج عن تقارعها المتناغم لغة موسيقية جميلة.

2 - الموسيقى النابعة من تآلف الكلمات حين تنتظم في الترتيب فقرات وجمل، فالألفاظ المفردة تقرع الألفاظ المفردة المجاورة لها سابقاً ولاحقاً، وينجم عن تقارعها المتناسق لغة موسيقية جميلة ().

وليست غاية الألفاظ للوصف والتصوير فحسب بل النغم أيضاً، والذي يأتي من طبيعة الحروف. وهذا النغم ليس غاية في ذاته وإنما هو وسيلة للإيحاء. وللألفاظ قيمة ذاتية إذ تقدم المتعة الحسية التي يجدها المتلقي مستمعاً أو قارئاً، فتنشأ من تتابع أجراس حروفها، ومن توالي الأصوات التي تتآلف منها في النطق، وفي الوقوع على الأسماع. كما أن التلاؤم يكون في الكلمة بائتلاف الحروف والأصوات وحلاوة الجرس، ويكون في الكلام بتناسق النظم وتناسب الفقرات وحسن الإيقاع (). وليست آيات القرآن الكريم موزونة حسب قواعد السجع، ولا يمكن أن نسمي ما فيه من جرس وإيقاع سجعاً، لأن هذا الاسم مأخوذ من مصدر بشري هو سجع الكهان، وسجعات القرآن توضع تحت اسم فاصلة ().

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير