تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ولو تصورنا جماعة من الصالحين مختلفي الأعمار، وهم يشتركون ذكرانا وإناثاً، شباناً وشيوخاً بأصوات رخيمة متناسقة تصعد معاً وتهبط معاً، وهي تجأر إلى الله و تنشد هذا النشيد الفخم الجليل في آيات من سورة آل عمران: (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {191} رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ {192} رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ {193} رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ {194}). ففي تكرار عبارة (ربنا) ما يلين القلب، ويبعث فيه نداوة الإيمان، وفي الوقوف بالسكون على الراء المذلقة المسبوقة بهذه الألف اللينة ما يعين على الترخيم والترنيم.

و لئن كان في موقفي الدعاءين هذين نداوة ولين، ففي بعض مواقف الدعاء القرآني الأخرى صخب رهيب. ها هو ذا نوح - عليه السلام- يدأب ليلاً و نهاراً على دعوة قومه إلى الحق، ويصر على نصحهم سراً وعلانية، وهم يلجون في كفرهم وعنادهم، ويفرون من الهدى فراراً، ولا يزدادون إلا ضلالاً واستكباراً، فما على نوح ـ وقد أيس منهم ـ إلا أن يتملكه الغيظ و يمتلئ فمه بكلمات الدعاء الثائرة الغضبى تنطلق في الوجوه مديدة مجلجلة، بموسيقاها الرهيبة، وإيقاعها العنيف، وما تتخيل الجبال إلا دكاً، والسماء إلا متجهمة عابسة والأرض إلا مهتزة مزلزلة، والبحار إلا هائجة ثائرة، حين دعا نوح على قومه بالهلاك والتبار فقال في سورة نوح: (رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً {26} إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً {27} رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَاراً {28}).

أما الحناجر الكظيمة المكبوتة التي يتركها القرآن في بعض مشاهده تطلق أصواتها الحبيسة ـ بكل كربها وضيقها وبَحَّتِها وحشرجتها ـ فهي حناجر الكافرين النادمين يوم الحساب العسير، فيتحسرون ويحاولون التنفيس عن كربهم ببعض الأصوات المتقطعة المتهدجة، كأنهم بها يتخففون من أثقال الديْن، يدعون ربهم دعاء التائبين النادمين ويقولون في سورة الأحزاب: (رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ {67} رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً {68}).

إن هذه الموسيقى الداخلية لتنبعث في القرآن حتى من اللفظة المفردة في كل آية من آياته، فتكاد تستقل ـ بجرسها و نغمها ـ بتصوير لوحة كاملة فيها اللون زاهياً أو شاحباً، وفيها الظل شفيقاً أو كثيفاً. أرأيت لوناً أزهي من نضرة الوجوه السعيدة الناظرة إلى الله، ولوناً أشد تجهماً من سواد الوجوه الشقية الكالحة الباسرة في قوله تعالى في سورة القيامة: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ {23} وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ {24} تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ {25}). لقد استقل الإيقاع في لوحة السعداء بلفظة (ناضرة) وبتصوير أزهى لون وأبهاه، كما استقل في لوحة الأشقياء لفظة (باسرة) برسم أمقت لون وأنكاه.

إن العلاقة بين القرآن الكريم والموسيقى اللغوية علاقة وطيدة، فموسيقى القرآن اللغوية من أروع أنواع الموسيقى اللغوية وأجملها على الإطلاق، وأشدها تجانساً، وأكثرها تناغماً وانسجاماً. وهي موسيقى ناشئة من تخير الكلمات وترتيب الحروف والجمل حسب أصواتها ومخارجها، وما بينها من تناسب في الجهر والهمس والشدة والرخاوة، إلى درجة أن الأستاذ مصطفى صادق الرافعي اعتبر في كتابه (إعجاز القرآن الكريم) أن هذه الموسيقى جزء من إعجاز القرآن الكريم، ولكن هذه الموسيقى لا تخرج عن كونها موسيقى لغوية هدفها هز مشاعر النفس وإذكاء الروح حتى تستجيب لأمر الله وتنقاد لشرعه ().

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير