تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وإذا كانت العبارة القرآنية لا تقع على آذاننا اليوم موقع السحر والعجب والذهول، فالسبب هو التعود والألفة والمعايشة منذ الطفولة، والبلادة والإغراق في عامية مبتذلة أبعدتنا عن أصول لغتنا. ثم أسلوب الأداء الرتيب الممل الذي نسمعه من مرتلين محترفين يكررون السور من أولها إلى آخرها بنبرة واحدة لا يختلف فيها موقف الحزن من موقف الفرح من موقف الوعيد من موقف البشرى من موقف العبرة. نبرة واحدة رتيبة تموت فيها المعاني وتتسطح العبارات.

التشكل الإيقاعي في القرآن ():

تنبع من النظم القرآني خصائص نغمية وإيقاعية تتشكل وفقاً للتوجه السياقي في كل جملة من آياته. ويتم هذا التشكل من خلال وضع الحرف أو الكلمة أو الجملة على هذا النحو من الأنحاء وذلك قصدأً إلى ملامح فنية تأتي في مقدمتها الموسيقى، وبذلك يضحي التعبير أبرع والتأثير أروع.

إن دور الإيقاع في القرآن- هذا الدور الكبير- لا تنبع أهميته من أنه أحد عناصر الأسلوب الفني أو وسيلته البارزة وسيلة التصوير والتعبير والتأثير فحسب، بل لأن له هدفاً دينياً أولاً، ولأننا نستطيع أن نجعله- ثانياً- أساساً أو معياراً أو مفتاحاً- اختر ما شئت- لأحد علوم القرآن الكريم.

فالإيقاع ذو هدف ديني من جانبين: جانب الحافظ وجانب المستمع، فالأول يساعده على حفظ القرآن وتذكره وتلاوته، والثاني يجعله ينفعل له ويتأثر به. ولعلنا نلمح أن إدراك الطفل لنغم الكلام وجرسه يسبق إدراكه لمعناه وأخيلته، كما أن الإنسان لديه ميلاً غريزياً أو استعداداً فكرياً لالتقاط وتذكر جملة من المقاطع الصوتية المنغمة والمترددة أكثر بكثير من استعداده لالتقاط بعض المقاطع العادية غير المموسقة من الكلام، وكل من شاهد حفظة القرآن من الأطفال يعرف أنهم يجدون سهولة واضحة في حفظه وتذكره أكثر مما يجدون في حفظ غيره من النصوص وتذكرها لأن الإيقاع يساعدهم على هذا.

وبالإيقاع نستطيع أن نعرف المكي من المدني لا سيما في تلك السور التي وقع حولها خلاف فقيل إنها مكية كما قيل إنها مدنية (). ويمكن عن طريق فحص الموضوع والأسلوب وطريقة الأداء والوقوف عند نغم الآيات وإيقاعها أن نحدد - ونحن مطمئنون - مكية بعضها مثل: (التكاثر، والعاديات، والزلزلة، والرعد، والرحمن)، ومدنية بعضها الآخر مثل: (الجمعة، ومحمد، والحج، والنساء). ولنأخذ سورة الزلزلة مثالاً على هذا الإيضاح الإيقاعي (). يقول تعالى: (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا {1} وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا {2} وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا {3} يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا {4} بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا {5} يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ {6} فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ {7} وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ {8}).

تبدأ حركة النص عنيفة قوية، إنه يوم القيامة حيث ترجف الأرض وتزلزل، وتنفض ما في جوفها، تتخفف من أثقالها التي حملتها وناءت بها، ويقف الإنسان دهشاً ضائعاً مذعوراً يتساءل: ما الأمر؟ ما لهذه الأرض ترج وتزلزل، ماذا أصابها؟ وتتحدث الأرض، تصف ما جرى لها، إنه أمر الله، أمرها أن تمور فمارت، أن تقذف ما في بطنها فقذفت، هنا والإنسان مشدوه يكاد لا يلتقط أنفاسه، خائف يترقب، في لمحة سريعة يعرض مشهد القيامة من البعث حتى الحساب، الناس يصدرون كالجراد، وينتشرون موزعين متخالفين، فقوة الزلزلة وهول البركان العظيم فرقهم، جعلهم مذعورين خائفين أشتاتاً أشتاتاً حيارى يهرعون في كل اتجاه، ولكن إلى أين؟ إلى الميزان ليحاسبوا، ليروا أعمالهم، فمن يعمل الخير أو الشر مهما يكن هذا أو ذاك ضئيلاً ودقيقاً سيجده ماثلاً إزاءه، يراه رأي العين.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير