ولذا نجد أنفسنا إزاء العديد من الأسئلة أهمها على الإطلاق: ما سر التعريف في موضع، والتنكير للفظة نفسها في موضع آخر؟ وللإجابة عن هذا السؤال لا بد أولاً من التأمل الدقيق في هاتين الكلمتين في حال تعريفهما بـ (ال) لندرك سر هذا التعريف. يقول الإمام عبد القاهر: " اعلم أنك تجد الألف واللام في الخبر على معنى الجنس، ثم ترى له في ذلك وجوهاً: أحدها أن تقصر جنس المعنى على المخبر عنه لقصدك المبالغة، وذلك قولك: (زيد هو الجواد)، و (عمرو هو الشجاع)، تريد أنه الكامل، إلا أنك تخرج الكلام في صورة توهم أن الجود والشجاعة لم توجد إلا منه، وذلك لأنك لم تعتد ما كان من غيره لقصوره عن أن يبلغ الكمال " ().
فالتعريف بأل هنا على دلالة قصر جنس المعنى على المخبَر عنه لقصد المبالغة، فكأن العزة والكرامة لم توجد إلا في هذا الشخص. يقول د. محمد العبد: " لننظر إلى التعريف بأل في (العزيز) و (الكريم) حتى نرى أثره في بنية الدلالة المفارقية، كأن كلا من هذين الوصفين، وبالتالي عكسهما تماماً – كما نريد المفارقة حقيقة أن تقول – قد تناهى في الظهور على الموصوف، حتى امتنع خفاؤه " ().
فالآية بهذا التعريف تقصد معنى التهكم والسخرية من هذا العزيز الكريم (أبي جهل)؛ ذلك لأن معاني العزة والكرامة على نحوهما الدقيق مما لا يعرف له سبيل عند هذا الرجل، فليس له نصيب من العزة والكرامة إطلاقاً. ولذا فإن التعريف هنا أبلغ ما يكون، وأدق ما يوصف به توظيف، بعيداً عن سياقات التنكير التي كانت - عندئذ – ستغرقنا في دائرة العمومية والإيهام، وهو غير ما يُقْصَد هنا.
* ومن ذلك قوله تعالى: ? وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً ? ()، وذلك في الكلام على سيدنا يحيى -عليه السلام -، وقوله تعالى: ? وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً ? ()، في سياق الحديث عن سيدنا عيسى -عليه السلام-. ولنا أن نتعجب من إيراد لفظ السلام في الآيتين ما بين والتنكير في جانب سيدنا يحيى والتعريف في جانب سيدنا عيسى، فما السر في ذلك؟. والإجابة تتمثل في أن لفظ (السلام) قد عُدِل به من التنكير إلى التعريف لثلاث فوائد:
أولها: أن (السلام) يشعر بذكر الله تعالى؛ لأنه اسم من أسمائه جل ذكره.
والفائدة الثانية: أنه يشعر بطلب السلامة والأمان منه جل وعلا؛ لأنك متى ذكرت اسمًا من أسماء الله تعالى تعرضت لطلب المعنى الذي اشتق منه ذلك الاسم؛ نحو قولك: الرحمن، الرحيم، الملك، القدوس، السلام.
والفائدة الثالثة: أنه يشعر بعموم التحية، وأنها غير مقصورة على المتكلم وحده. فأنت ترى أن قولك: سلام عليك، ليس بمنزلة قولك: السلام عليك، في العموم.
وقد اجتمعت هذه الفوائد الثلاث في تسليم عيسى - عليه السلام- على نفسه في قوله تعالى: ? وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً ?، ولم تكن واحد من هذه الفوائد الثلاث في تسليم الله تعالى على يحيى- عليه السلام- في قوله تعالى: ? وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً ?؛ لاستغناء هذه المواطن الثلاثة عنها؛ وهي يوم الولادة، ويوم الموت، ويوم البعث؛ لأن المتكلم - هنا- هو الله جل جلاله، فلم يقصد تبركًا بذكر الاسم، الذي هو (السلام)، ولا طلبًا لمعنى السلامة، ولا عمومًا في التحية منه، لأن سلامًا منه سبحانه كاف عن كل سلام، ومغن عن كل تحية، ومرب عن كل أمنية - كما يقول السهيلي ().
ولهذا لم يكن لذكر الألف واللام- ههنا- معنى؛ كما كان لهما- هنالك- لأن عيسى- عليه السلام- يحتاج كلامه إلى هذه الفوائد، وأوكدها كلها: العموم، فلذلك كان لا بد في تحيته من تعريف السلام بأل الجنسية، التي تفيد الاستغراق والعموم. وعلى هذا يكون معنى تسليم عيسى- عليه السلام- على نفسه: السلام كله عليَّ خاصَّة. أي: جنس السلام. وإذا كان كذلك، فلم يبق لأعدائه غير اللعنة. فكأنه بهذا التعريف يعرِّض باللعنة على متهمي مريم - عليها السلام- وأعدائها من اليهود ().
ومثل هذا التلوين الصوتي في تنويع التوظيف النصي للنكرة والمعرفة في إطار الكلمة ذاتها إنما مداره في النص القرآني على شمولية النظرة إلى الصورة القرآنية كاملة، لا إلى مفردة من أجزائها، أو أحد أركانها. والتلوين بهذا التناول الصوتي والصرفي والتركيبي والسياقي للكلمة يومئ إلى الدلالات الجمالية، ويفجر أسرارها النصية، وهذا هو المقصد هنا.
الهوامش:
1. - الزملكاني، البرهان الكاشف عن سر الإعجاز، 136.
2. - ينظر: عبد القاهر، دلائل الإعجاز، 132. – السكاكي، مفتاح العلوم، 85. – العلوي، الطراز، 208.
3. - سورة الأنبياء: آية رقم (46).
4. - القزويني، الإيضاح، 54.
5. - د. محمد العبد، المفارقة القرآنية، 80. وينظر:– د. منذر عياشي، مقالات في الأسلوبية الصوتية، 356.
6. - سورة الدخان: آية رقم (49).
7. - سورة التوبة: آية رقم (138).
8. - سورة يوسف: آية رقم (31).
9. - سورة الحاقة: آية رقم (40).
10. - سورة الأنفال: آية رقم (74).
11. - سورة الفتح: آية رقم (3).
12. - عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، 138.
13. - د. محمد العبد، المفارقة القرآنية، 69.
14. - سورة مريم: آية رقم (15).
15. - سورة مريم: آية رقم (33).
16. - ينظر: السهيلي، نتائج الفكر، 416 – 418.
17. - ينظر: د. فضل حسن عباس، تأملات في القصص القرآني، دار الفكر، دمشق، 2001، 354 – 360.
¥