تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

* فمثلاً قوله تعالى: ? كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ? (). فإن لفظ (ليأخذوه) هنا موظف دلالياً بمعنى (ليقتلوه)، لكن لمَ لمْ يوظف هذا المرادف الدال على المعنى، وعدل إلى لفظ مناظر دون اللفظ الأصل؟ يقول الباقلاني: " هل تقع موقع (ليأخذوه) كلمة؟ وهل تقوم مقامه في الجزالة لفظة؟ وهل يسد مسده في الأصالة نكتة؟ لو وُضِعَ موضع ذلك (ليقتلوه) أو (ليرجموه) أو (ليطردوه) أو (ليهلكوه) أو (ليذلوه) أو نحو هذا، ما كان ذلك بديعاً، ولا بارعاً ولا عجيباً ولا بالغاً ... فانْقُد موضع الكلمة تعلم بها ما نذهب غليه من تخيُّر الكلام، وانتقاء الألفاظ، والاهتداء إلى المعاني " ().

ولعلّ وقوف الباقلاني أما لفظة (ليأخذوه) في الآية الكريمة مسوّغه أن النص القرآني قد اختار لفظة تحمل في دلالاتها الواسعة كل معاني المفردات التي عددها، وهذا مما يتناسب مع نية كل أمة لا تؤمن برسولها، إذ تتنوع النوايا السيئة بين المعاني التي عددها الباقلاني من قتل أو نفي أو طرد أو إهلاك أو إيذاء. ولا تجد لفظة تحمل شحنات هذه الدلالات مجتمعة بشمولها وعموميتها سوى ما عبّر به القرآن الكريم في لفظة (ليأخذوه).

* ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: ? اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ? (). إذ نجد التعبير (بين أيديهم) يمكن أن يستدعي في الذهن الظرف (أمامهم) لمناسبة الظرف اللاحق وهو (خلفهم)، فيمكن أن يكون أصل الكلام - في غير القرآن-: (يعلم ما أمامهم وما خلفهم)، ولكن ذلك لم يتم التعبير به فلمَ حدث هذا؟

ومن فرائد التوظيف أن القرآن الكريم يجمع بين التعبير بظرف المكان (بين) + كلمة (اليد) في تجاور دلالي مع الظرف (خلفهم) في (15 خمس عشرة آية) ()، مما يجعل من التركيب الظرفي (بين + اليد) مساوياً في المعنى لكلمة (أمام) التي هي أيضا ظرف، وذلك ليتم إيجاد نوع من التناسب اللفظي في سياق هذه الآيات، لكن ذلك لم يتم! يقول الزمخشري: " ? يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ?، ما كان قبلهم، وما يكون بعدهم. والضمير لما في السماوات والأرض لأن فيهم العقلاء " ().

فقد جعل الظرفين هنا غير متعيّنين للمكان بل هما للزمان، إذ دلّا دلالة شاملة على استغراق الزمن الماضي والزمن الآتي، وهذا مما يتسق مع علم المولى عز وجل فهو العليم الحكيم. غير أن الزمخشري جعل من التصاق الضمائر بهذين الظرفين إضماراً لأهل السماوات والأرض، لكونهم أشد تعلقاً بما يحدث من أحداث في هذا الزمن.

ونجد عند أبي حيان لمحة تفصيلية أكبر إذ يقول: " ضمر الجمع عائد على ما وهم الخلق، غلب على من يعقل، فجمع الضمير جمع من يعقل. وهو عائد على من يعقل من الأنبياء والملائكة مراعاة لقوله ? مَن ذَا الَّذِي ?. قال ابن عباس: (ما بين أيديهم) أمر الآخرة، و (ما خلفهم) أمر الدنيا. والذي يظهر أن هذا كناية عن إحاطة علمه تعالى بسائر المخلوقات من جميع الجهات. وكنى بهاتين الجهتين عن سائر الجهات لأحوال المعلومات، والإحاطة تقتضي الحفوف بالشيء من جميع جهاته " ().

فقد أبان هنا عن المعنى الذي من أجله جاء التعبير (بين أيديهم) وهو إفادة الإحاطة الزمنية لا المكانية، ولو عبّر بالظرف (أمام) لالتبس الأمر هنا بالمكان لا الزمان. كذلك لو عبّر بالظرف (أمامهم) لتطرق الذهن إلى تشخيص الجهات مما لم يذكر هنا، وهذا بالطبع محال في علم الله، إذ علمه محيط شامل.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير