صيغة مفاعلة تقتضي مشاركة من اثنين لإيجاد الفعل، والصائم منهي ابتداء عن إنشاء القتال، والجواب عن ذلك، كما ذكر الحافظ رحمه الله في الفتخ، أن صيغة المفاعلة: لا يلزم منها وقوع الفعل، فلا يلزم من قولك: خادع فلان فلانا أنه قد خدعه بالفعل، وكذلك الشأن هنا، أو يقال بأن: "فاعَلَ" تطلق ويراد بها وقوع الفعل من واحد كما تقول: عالج فلان الأمر، وقد تولى ذلك بمفرده، ويمكن تخريج زيادة المبنى في "قاتل" و "شاتم" على القاعدة المطردة: الزيادة في المبنى تدل على الزيادة في المعنى، فيكون لفظ "قاتل" أبلغ في الدلالة على الجناية من "قتل" وكذلك "شاتم".
إِنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ:
تكرار يفيد التوكيد.
وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ:
توكيد بالقسم ولام الابتداء عناية بالمقسم عليه.
يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي: بيان لعلة المقسم عليه، وكأن السامع قد تبادر إلى ذهنه سؤال عن: علة ذلك؟، فجاء الجواب: لأنه يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، فيكون في الكلام إيجاز بالحذف دل عليه السياق اقتضاء، ودلالة الاقتضاء أصل يفزع إليه في تقدير ما يستقيم به السياق.
طعامه وشرابه وشهوته: إما أن يقال بأن عطف الشهوة على الطعام والشراب من باب: عطف العام على الخاص، فقدم الخاص: الطعام والشراب لأنهما آكد الشهوات التي يمتنع الصائم عنها، ثم عطف عليهما العام، فيكون ذكرها قد تكرر مرتين: مرة بالنص على أعيانها، ومرة ضمن عام يشملها، وفي ذلك من العناية بشأنها ما فيه، فإفرادها بالذكر يدل عليها: مطابقة، وإدراجها في عام يشملها يدل عليها: تضمنا، فاجتمع في حقها الدلالتان.
وإما أن يقال بأن الشهوة هنا قد أريد بها شهوة الفرج، فيكون الكلام من قبيل: التأسيس لا التوكيد، فأسس اللفظ المذكور معنى جديدا لم يرد في السياق، ويرجح ذلك ما اطرد من قول أهل العلم بأنه إذا دار الكلام بين التوكيد والتأسيس فحمله على التأسيس أولى لأن فيه إنشاء معنى جديد، بخلاف التوكيد فهو تنبيه على معنى مذكور، والأصل في النصوص، كما تقدم، دلالتها على أكبر قدر من المعاني إثراء لذهن السامع.
الصِّيَامُ لِي: يمكن النظر إلى هذه الجملة من وجهين:
من وجه: التوكيد المستفاد من الحصر بتعريف الجزأين، إن قلنا بأن الخبر هو نفس الجار والمجرور فهو معرف بالإضافة، فيكون تقدير الكلام: الصوم لي وحدي لا لأحد غيري.
ومن وجه إفراد الصيام بالإضافة إلى الباري، عز وجل، مع أنه مفعول العبد لا الرب، فيكون في ذلك من التعظيم ما فيه، تماما كما قيل في: بيت الله، وناقة الله، فإضافة هذه الأعيان إلى الله، عز وجل، إضافة تشريف.
وَأَنَا أَجْزِي بِهِ: توكيد بالفاعل المستتر في: أجزي، فيكون قد ذكر مرتين بارزا كـ:
مبتدأ: فالمبتدأ فاعل في المعنى، ومستترا في عامله.
ومجيء العامل بصيغة المضارع يدل على تجدد الجزاء بتجدد الصيام، فليس أمرا ماضيا قد انتهى، وإنما هو أمر متجدد باستمرار، فكلما صمت وأطعت، وجدت جزاء ذلك عند الرب، جل وعلا، وفي هذا من استنهاض الهمم ما فيه.
وفي الرواية الثانية:
لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ: تفصيل بعد إجمال يسمية البلاغيون: "التوشيح"، إذ ذكر الفرحة أولا مجملةً استرعاء لسمع المخاطب، ثم فصل نوعيها: (إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ).
وتقديم ما حقه التأخير في: "للصائم فرحتان" يفيد القصر والتوكيد.
والله أعلى وأعلم.