كما أن قوله ? فهو خير ? من إيجاز القِصَر – كذلك - فقد حوت لفظة "خير" كثيراً من المعاني التي يتعذر حصرها، والإحاطة بها، وإنما نعدُّ منها ولا نعددها، فقد حوت الخير المطلق، فهو وعد من الرب الكريم أن من فعل خيراً فإن له مقابل ذلك خيراً عظيماً، وحسبك بخير صادر من رب كريم! كيف وقد ذُكر في سياق الجزاء والثواب، فهو – سبحانه – أهل الكرم والجود، يداه سحاء، ولذا فيتعذر على الفكر حصر هذه الخير، والوقوف عليه، وإنما نعدد منه، وإلا فإن فضل الله لا يحصيه العدد، ولا يحيط به الحصر.
ثم ختم – سبحانه – الآية بالحث على الصيام في قوله ? وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون ?، والمعنى: أن فاعلموا ذلك أيها المؤمنون، وصوموا، فهو خير لكم. (17)
وقد اجتمعا نوعا الإيجاز في قوله ? خير لكم ?؛ وذلك أن فيها حذفاً وقِصَراً، فتقدير المحذوف: خير لكم من الإطعام، وقد حُذف؛ لوضوحه؛ لدلالة المقام عليه (18)، فقد ذُكر ذلك في سياق المفاضلة بين الصيام والإفطار، فذكر – سبحانه – أن الصيام خير من الإفطار، وفي ذلك حثٌّ على الصيام، وحضٌّ عليه.
كما أن في لفظة "خير" إيجاز قصر؛ وذلك لاشتمالها على كثير من المعاني، وبيان ذلك أن الصيام خير من الإفطار في كل شيء، هكذا وردت في القرآن الكريم مطلقة دون تقييد، وقد أفاد هذا التقييد الإطلاق والعموم، فهو خير في كل شيء ديناً ودنياً، ومن ذا يحصر مصالح الصيام الدنيوية؟ ومن ذا الذي يحصر مصالحه – كذلك – ومنافعه الآخروية؟ ولذا جاء الإجاز ليشمل هذه كله بأقصر الألفاظ، بل بكلمة واحدة، فتأمل بلاغة القرآن وإعجازه.
كما أن قوله ? وأن تصوموا خير لكم ? التفات من الغيبة في قوله ?وعلى الذي يطيقونه) إلى الخطاب في قوله ? وأن تصوموا خير لكم?، وقد جاء الالتفات في هذا السياق متوافقاً أتم التوافق مع مضمون الآية ومحتواها، وكأن المقام قد حتم هذا الالتفات وأوجبه، وذلك أن في الخطاب مزيداً من الاهتمام، والعناية بالمخاطبين، كما أنه مظهرٌ من مظاهر الحفاوة، والرعاية بهم، فرفعةً لشأنهم، وإعلاءً من قدرهم توجه – سبحانه – بالخطاب إليهم، كما أن فيه تهويناً عليهم لأمر الصيام مشاقه، فقد أنستهم لذة المناجاة هذه المشاق كلها، وهوَّنتها عليهم. (19)
كما أن الانتقال من أسلوب إلى آخر إشارة إلى أن هاهنا معنى عظيماً يستحق لفت الأنظار إليه، ويستحق – كذلك – تنشيط العقول، وتحريك الأفهام؛ للوقوف عنده واستيعابه، ولذا نرى أن المعنى الذي تمَّ فيه الالتفات من الأهمية بمكان، وهو تفضيل الصيام على الإطعام، والحث على الصيام، بل إن هذا الأمر مدار هذه الآيات وموضوعها، ومن هنا جاء الالتفات في هذا الموضع للإشارة إليها.
وقوله ? إن كنتم تعلمون ? إتمام للحث على الصيام، والترغيب فيه، يتجلى ذلك من خلال حذف متعلق الفعل "تعلمون"، فقد حُذف لوضوحه، ودلالة السياق عليه (20)، والتقدير: إن كنتم تعلمون فضيلة الصيام وفوائده التي بسببها فُضِّل الصيام على الإفطار، ومن ثم كان الحث عليه (21)، كما أن هذا الحذف هو الأبلغ والمتوافق مع فضائل الصيام وفوائده التي لا حصر لها.
وفي مجيء أداة الشرط "إنْ" دون "إذا" دلالة في هذا المقام، فهاتان الأداتان وإن كانتا من أدوات الشرط إلا أن لكل واحدة دلالة تدل عليها، ومقاماً تأتي فيه دون الأخرى، فتأتي "إن" في الأمور المشكوك في وقوعها، المحتمل حدوثها، بخلاف "إذا" فتأتي في الأمور المتيقن وقوعها، المجزوم حدوثها، وقد جاءت أداة الشرط "إنْ" هنا إشارة إلى أن علم المخاطبين بالصيام، وتفضيله على الإطعام غير متحقق لدى كل المخاطبين، كما أن حكمته وفائدته قد تكون خافية لدى بعضهم. (22)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) جامع البيان: 3/ 159.
(2) انظر: المصدر السابق: 3/ 160.
(3) البقرة: 80.
(4) يوسف: 20.
(5) التفسير الكبير: 5/ 63.
(6) انظر: حاشية زادة على تفسير البيضاوي: 1/ 491.
(7) انظر: حاشية الروض المربع: 3/ 376.
(8) انظر: إملاء ما منَّ به الرحمن: 1/ 80، و: التفسير الكبير: 5/ 64.
(9) الشعراء: 63.
(10) انظر: معاني القرآن: 1/ 252، للزجاج.
(11) انظر: إملاء ما منَّ به الرحمن: 1/ 81.
(12) انظر: التفسير الكبير: 5/ 70.
(13) انظر: المصدر السابق: 5/ 70.
(14) النور: 4.
(15) المحرر الوجيز:1/ 252.
(16) جامع البيان: 3/ 186.
(17) انظر: الجامع لأحكام القرآن: 2/ 194.
(18) انظر: معاني القرآن:1/ 112، للفراء.
(19) انظر: روح المعاني: 2/ 59.
(20) انظر: إرشاد العقل السليم: 1/ 119.
(21) انظر: محاسن التأويل: 3/ 423.
(22) انظر: التحرير والتنوير: 2/ 168.
ـ[أنوار]ــــــــ[11 - 09 - 2008, 08:20 ص]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم ...
كل الشكر لأستاذنا الفاضل: العمار
على هذا التفسير البلاغي القيّم، جعله الله في موازين حسناته،
وأثابه الخير على مجهوده ..
وأتمنى أن تكون للأستاذ وقفات مع آيات أخرى، حتى وإن اقتصر
المقال على آية واحدة، فله كل الشكر والتقدير ..
عذراً إليكم يا أستاذ ولكن .. هلا قرأتم بدءَ مقالكم ..
كتب الله لكم خيراً
¥