تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

والذي يظهر أن بعض علماء الحنفية (9) هم أول من تكلم بها؛ ولكن في البدايات لم يكن فيها التوسع الذي عرف لدى المتأخرين (10).

الحنفية والحيل:

اشتهر الحنفية بالقول بالحيل واعتبارها، وأنهم أول من أفتى بها، وأول مدونات عرفت في الحيل كانت لعلماء من الحنيفة، وقد نقلوا عن أبي حنيفة عدة فتاوى استخدم فيها الحيلة لإخراج المستفتي من مأزق وقع فيه، والذي ساعد الإمام على هذا قوة ذكائه، وحسن فهمه، ودقة استنباطه؛ مما جعله قادراً على إيجاد مخارج شرعية، وإن كنا لا نستطيع أن نثق بكل ما يروى عنه.

ومما ينبغي التنبيه له أن الإمام أبا حنيفة كان يطوع الواقع ليتوافق مع الشريعة، ولم يكن يطوع الشريعة لتتوافق مع الواقع، كما أنه لم يكن يستخدمها إلا في حالات محدودة جداً، وربما لو علم بما أحدث بعده من توسع في الحيل ما أفتى بها أصلاً.

يقول أحمد أمين: "فترى من مجموع هذا أن الحيل التي أفتى بها أبو حنيفة ليست من نوع التحايل على إبطال الحق، أو أكل الأموال بالباطل، وإنما هي استخراج فقهي للخروج من مأزق مع عدم التعدي على أحد في ماله ونفسه (11) يقول الشيخ أبو زهرة رحمه الله تعالى: "فالحيلة في نظر هؤلاء المستشرقين عمل يوافق في شكله ومظهره مطلب الشرع، وهو في نتيجته احتيال على الخروج من سلطان الشرع، وتفويت أحكامه، هذه نظرة أولئك العلماء الأوربيين إلى الحيلة، وهي تتفق إلى حد كبير مع الحيل التي ابتدعها المتأخرون للتخلص من الأحكام الشرعية مع اتفاقها في ظاهر الأمر، ولكنها لا تنطبق على الحيل المأثورة عن أبي حنيفة وأصحابه الأولين؛ فإن حيلهم كانت للوصول إلى الحق أحياناً، ولتتفق مع قيودهم التي قيدوا بها العقود، ولتتفق أحكامها مع المقاصد الشرعية لا لتجافيها، وتنأى عنها، وللتيسير على الناس، ومنع الحرج إذا ضيقوا على أنفسهم بأيمان أقسموها، وكانت لإرشاد الناس إلى الشروط الشرعية التي يحتاطون بها لحقوقهم وحمايتها من العبث" (12).

على أن بقية المذاهب لم تسلم من تجاوزات واضحة في باب الحيل، خاصة عند المتأخرين منهم، وليس هذا خاصاً بالحنفية فقط.

الحيل وضغوط الواقع:

الحياة بطبيعتها مليئة بالتعقيدات، والتقلبات، والمفاجآت، فهي لا تسير على نمط واحد، تتداخل فيها أمزجة الناس وأهوائهم، وتتقاطع مع أفكارهم ومبادئهم المختلفة والمتناثرة؛ لذلك قد نجد من يحتج بصعوبة تطبيق الشريعة في حياة طبيعتها التعقيد والاختلاف والتغير، وأنه لابد من تحوير الشريعة وتطويعها وتليينها لتتوافق مع الواقع المعاش، وأفضل طريق لهذا هو الحيل".

فنقول جواباً على هذه الشبهة: إن المشكلة ليست في الشريعة، ولا في توافقها مع الواقع المعاش؛ إنما المشكلة تكمن في أفهام الناس، وإدراكاتهم القاصرة، وهزيمتهم العقلية والنفسية أمام الواقع المعاش؛ فالشريعة أنزلها الله تعالى الذي خلق الحياة والناس، وهو أعلم بما يصلح لهم، وإن كان هناك شيء يجب أن يكيف تجاه الآخر، فالواقع هو الذي يجب أن يكيف ليتوافق مع الشريعة لا العكس؛ لأن في هذا صلاحاً للواقع، أما تكييف الشريعة لتتوافق مع الواقع ففي هذا ضياع للشريعة وللواقع معاً، كما أن هذا القول ينطوي على غمزٍ في الشريعة الإسلامية بأنها قاصرة، وغير صالحة لكل زمان ومكان، وأنها دين عسر ومشقة" وهذا قول جاهل، أو حاقد، والناظر في الكتاب والسنة وفتاوى الصحابة والتابعين والأئمة من بعدهم، وهذا التراث الفقهي العظيم؛ يجد فيه الملاذ و الملجأ والمخرج من كل حادثة مهما صعبت وتعقدت.

أقسام الحيل:

قسم ابن القيم رحمه الله تعالى الحيل إلى خمسة أقسام تبعاً للأحكام الخمسة: الواجب، المندوب، والمباح، والمكروه، والمحرم.

قال رحمه الله تعالى: وإذا قسمت باعتبارها لغة انقسمت إلى الأحكام الخمسة؛ فإن مباشرة الأسباب الواجبة حيلة على حصول مسبباتها؛ فالأكل والشرب واللبس والسفر الواجب حيلة على المقصود منه، والعقود الشرعية واجبها ومستحبها ومباحها كلها حيلة على حصول المعقود عليه، والأسباب المحرمة كلها حيلة على حصول مقاصدها منها، وليس كلامنا في الحيلة بهذا الاعتبار العام الذي هو مورد التقسيم إلى مباح ومحظور؛ فالحيلة جنس تحته التوصل إلى فعل الواجب، وترك المحرم، وتخليص الحق، ونصر المظلوم، وقهر الظالم وعقوبة المعتدي، وتحته التوصل إلى استحلال المحرم، وإبطال

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير