وهو نص صريح في أن سحنون لم يلتق إمام دار الهجرة. والقاضي عياض أورد ترجمة سحنون ضمن فصل وضع له العنوان التالي: "الطبقة الأولى الذين انتهى إليهم فقه مالك والتزموا مذهبه، ممن لم يره ولم يسمع منه". وهذا في غاية الوضوح.
ولعل الوهم المحتمل من ابن حبان ومن تبعه يندرج ضمن "مظلومية المالكية"، والمغاربة تحديدا، التي عانوا منها تاريخيا. ومن ذلك أيضا: أن "الدارقطني" اعتبر محمد بن سحنون من المجهولين! كما أشار إلى ذلك صاحب "التقريب" ...
_ المسائل الثلاث التي قال فيها الإمام مالك برأيه:
جاء في "ترتيب المدارك": " قال القعنبي: دخلت على مالك، فوجدته باكيا. فسألته عن ذلك، فقال: "ومن أحق بالبكاء مني! لا أتكلم بكلمة إلا ثبتت بالأقلام وحملت إلى الآفاق. وما تكلمت برأي إلا في ثلاث مسائل".
لكنني لم أعثر على ذكر للمسائل الثلاث في رواية القعنبي في المصادر المتوفرة لدي، و"شجرة النور" بعيدة عني .. وقد ذكر رواية القعنبي هذه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" وكذا صاحب "جذوة المقتبس"، لكن بدون تحديد للمسائل بأنها ثلاث. ففيهما: «دخلت على مالك رحمه الله في مرضه الذي مات فيه، فسلمت عليه ثم جلست، فرأيته يبكي، فقلت: يا أبا عبد الله ما يُبكيك؟ فقال لي: يا ابن قعنب وما لي لا أبكي؟ ومن أحق بالبكاء مني؟! والله لوددت أني ضُربت بكل مسألة أفتيت فيها برأيي بسوط سوط، وقد كانت لي السعة في ما سبقت إليه، وليتني لم أفت برأيي". (مع اختلاف طفيف بين المصدرين)
وفي "جامع بيان العلم": "قال الليث بن سعد: "قد أحصيت على مالك سبعين مسألة كلها مخالفة لسنة النبي صلّى الله عليه وسلّم، مما قال مالك فيها برأيه. قال: ولقد كتبت إليه بذلك في ذلك".
وقد أحصى صاحب "المسائل الملقوطة" المسائل التي انفرد بها مالك ولم يتابعه عليها أحد من فقهاء الأمصار، فأوصلها إلى اثنتين وسبعين.
ولعل المقصود من السؤال هو "المستحسنات الأربع"؛ التي قال فيها الإمام مالك: "إنه لشيء أستحسنه، وما علمتُ أن أحدًا قاله قبلي". وهي: الشفعة في الثمار، والشفعة في البناء بأرض محبّسة أو معارة، والقصاص بشاهد ويمين في الجرح، وخمس من الإبل في الأنملة من الإبهام. فهي مسألتان في الشفعة ومسألتان في الجنايات. وأضيف إليها مسألة خامسة، وهي: "هلكت المرأة ولها ولد يتيم لا وصيَّ له، فأوصت عليه: لم يجز ذلك؛ إلا إن كان المال يسير نحو الستين دينارا، فلا يُنزَع من الوصي. ايتحسنه مالك، وليس بقياس".
وقد نظم هذه المستحسنات "الحطاب" في الأبيات التالية:
وقال مالك بالاختيارِ **** في شفعة الأنقاض والثمارِ
والجرح مثل المال في الأحكامِ **** والخمس في أنملة الإبهامِ
وفي وصيِّ الأمِّ باليسيرِ ... منها ولا وليَّ للصغيرِ
ولابن القزّاح نظم تناولها أيضا ..
ولعله من البيِّن أن المسائل التي قال فيها الإمام مالك برأيه تتجاوز الثلاث والأربع والخمس. والظاهر أن حصرها بهذا العدد لانفراد الإمام بها، وفي المسألة مقال ...
فإن تكن هذه هي المسائل المقصودة، فبها ونعمت. وإن لم تكن، فلن يعدم القارئ فائدة في الذي أوردناه ..
_ الوانُّوغي: كذا ضُبط. والجزائريون يضبطونه هكذا "الوَنُّوغي"، وهو اسم شائع عندهم، نسبةً إلى منطقة "ونّوغة"، وأهل "القصبة" منهم أشراف .. ولكن هناك أيضا في المغرب أشراف وانوغة على ما أعتقد. وغالب الظن أن ما اعتبر "حاشية على تعليقة الوانوغي" ليس إلا "تكملة المشدّالي". والله أعلم.
_ ابن عقدة: المشهور هو الحافظ أبو العباس أحمد بن سعيد بن عقدة. وهو شيعي زيدي، متهَم؛ تكلم فيه بعض أئمة الحديث. والله أعلم.
_ القَيْجَمِيسي: كذا ضبطها صاحب "الأعلام". وهو أبو العباس أحمد بن سعيد القيجميسي المكناسي الورزيغي، ويُعرَف بـ "الحبّاك". توفي سنة 870 هـ. له: "نظم مسائل ابن جماعة في البيوع"، واختصار المعيار، و"أم الحواشي" في شرح مختصر خليل، و"التيسير في أحكام التسعير".
_ أمّا ما صنعه الأكراد بفقه مالك، فلا نظن بإخواننا الأكراد إلا خيرا .. ولعلك تشير إلى ابن الحاجب الكردي ...
_ ابن خِلْفَة: كذا ضبطه الشوكاني في "البدر الطالع". وهو: محمد بن خِلفة بن عمر الأُبّي الوشتاني المالكي، صاحب "إكمال الإكمال"، توفي سنة 828هـ. ومن فوائده، قوله:
"ويعني بالفائدة: الزائدة على ما في الكتب السابقة عليها. وأما إذا لم يشتمل التأليف إلا على نقل ما في الكتب المتقدمة، فهو الذي قال فيه خسار للكاغد".
كان يقول في مجالس التدريس: "إذا لم يكن في مجلس الدرس التقاط زيادة من الشيخ، فلا فائدة من حضوري مجلسه؛ بل الأولى ممن حصلت له معرفة الاصطلاح والقدرة على فهم ما في الكتب، أن ينقطع لنفسه ويلازم النظر". وضمن ذلك في أبيات، وهي:
إذا لم يكن في مجلس الدرس نكتةٌ **** وتقرير إيضاحٍ لمشكل صورةِ
وعزْوُ غريب النقل أو حَلُّ مقفلٍ ... أو اشكالٍ ابدتْه نتيجةُ فكرةِ
فدع سعيه وانظر لنفسك واجتهدْ **** ولا تتركنْ، فالترك أقبح خلَّةِ
_ أمّا ما نقلته عن شيخنا الفاضل "أبي أويس" (عجَّل الله فرجه!)، فإنني سأظل مصرًّا على نسبة هذه الجملة إليه، ولن أنسبها لا إلى جزائري ولا إلى كناني .. ولأنه قالها، فهي له؛ لأنه لها ولأمثالها! وأنا بذلك أستدرجه إلى الخروج من "غيبته الصغرى" .. وكانت نسبة الكونتيين أخرجته عن صمته، فكيف به إذا اختلفنا حول نسبة كلام جرى على لسانه؟!
وليعذرنا الشيخ أبو أويس؛ فقد نزلنا بالبيان مراتب عن منزلته الأولى، وهو أدرى بأنه "لكل مقام مقال" ...
هذا، وقد بقيت مسألة من مسائل "أبي إسحاق المالكي"، وهي المتعلقة بـ "ابن العلاف" الوارد ذكره في "البحر المحيط" .. فلعلها تصحيف عن "ابن أبي العلاء" وهو أبو العباس القرافي .. ولم أجد لها من وجه يستقيم، وذلك لقلة بضاعتي .. فيا أخانا أبا إسحاق المالكي، أفدنا بما يريح البال! وقديما قيل: " فأنت له يا مالكي خير شافع" ...
والله من وراء القصد. وأرجو التصويب.
¥