· واستدلوا كذلك على صحة قضاء عمر رضي الله عنه ما رواه البخاري عن سعيد بن المسيب في باب حكم المفقود في أهله وماله أنه قال: إذا فقد في الصف عند القتال تتربص زوجته سنة، وقال الزهري في الأسير الذي يعلم مكانه: لا تتزوج امرأته ولا يقسم ماله فإذا انقطع خبره فسنته سنة المفقود، وذكر ابن حجر في شرحه أن مذهب الزهري في امرأة المفقود أنها تتربص أربع سنين وقال الزهري أنه رأى خمسة من الصحابة هم عمر بن الخطاب و عبد الله بن عباس و عثمان بن عثمان و عبد الله بن مسعود و عبد الله بن عمر، وهو كذلك المروي عن جمع من التابعين كالنخعي وعطاء بن رباح وابن شهاب الزهري و ومكحول والشعبي. (1)
أما رد المخالفين فهو أن كل ما ورد هو قول صحابي وكما تم بيانه فلا حجة في قول الصحابي وخصوصا إذا وجد المخالف من نفس الدرجة وهو علي رضي الله عنه وغيره.
أما ما ورد من أقوال أئمة التابعين الموافق لقضاء عمر رضي الله عنه فما عدا كونه قول تابعي فإذا كان قول الصحابي وهو أرفع مرتبة من التابعي ليس بحجة فكيف بقول من هو أدنى وخصوصا أن المخالفين قد ورد عنهم القول في هؤلاء التابعين (نحن رجال وهم رجال) فلا يسلم لهم موافقة أئمة التابعين لقضاء عمر رضي الله عنه.
أما القائلون بجواز التفريق بين الزوجة وزوجها المفقود فقد وقع الخلاف الكبير بينهم في مدة التربص التي يجب على المرأة أن تمكثها قبل الحكم بالتفريق بين الزوجين وشطوا بذلك شططا بعيد فمن مطول في المدة إلى مائة وعشرون سنة إلى القائلين أن المدة فقط التقاء الصفين للقتال بين المسلمين والمرجع لهذا الخلاف الكبير بين العلماء في تحديد المدة التي تتربصها الزوجة إلى عدم وجود نص في المسألة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ فتح الباري: 9/ 429
(13)
من خلال ما مضى من المناقشة لأدلة الطرفين لم يسلم لفريق من الفريقين دليل واحد يرجح قولا على قول بل إن المسألة كلها تجعل العقل يحار من عدة جهات.
فمن جهة الزوجة:
بقاؤها دون زوج اعتداء واضح وصريح على حقها في أن يكون لها زوج يأنس وحدتها ويدافع عنها ويحميها، وبقاؤها دون زوج حرمان لها من حق النكاح الذي هو من المتطلبات الفطرية عند المرأة، وهو كذلك يعرضها للفتنة والانحراف وقد يوقعها في حبائل الرذيلة.
المسألة بالنسبة للمرأة أيضا هي مسألة عرض واستحلال للفرج وهذه مسألة يجب التوقف فيها و الحرص عند الحكم فيها فبعد العرض ليس هناك شيء يضيع إلا الدين.
ومن جهة الزوج:
فإن السماح لزوجته بالزواج من غيره وهو على قيد الحياة فيه اعتداء على حقه في زوجة التي صح العقد الشرعي عليها، وهو كذلك تدمير لأسرته بعد أن كانت أسرة مستقرة وخصوصا إن كان له منها أولاد.
أما الاعتداء الثاني على الزوج وهو الاعتداء على ماله فإذا تم تقسيم المال على الورثة باعتبار موت الرجل ورجع بعد ذلك فما أخذ من ماله أخذ من غير حق.
من أجل هذا لا يعد الترجيح أمرا هينا بل هو أمر في غاية الصعوبة وخصوصا أن المسألة لم يصح فيها أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ترد فيه آية ترفع الإشكال وتزيل اللبس في المسألة فمن أجل ذلك يجب على المرجح أن يتوثق في الأمر ويفكر فيه بما لا يسمح لأدنى خطأ حسب علمه واجتهاده.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(14)
المطلب الرابع: الترجيح.
أرى أن الترجيح هنا لا يمكن أن يكون إلا من خلال أمور مهمة هي
أولا:
القواعد الشرعية العامة
التي تحدد ما يكون في صالح الإنسان المسلم مثل قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) ورفع الضرر عن الزوجة وإزالة العنت عنها أمر أقرته الشريعة الغراء و يندرج تحت قاعدة رفع الضرر ومعلوم أن غياب الزوج عن الزوجة يسبب لها الضرر ويعرضها للفتن التي لا تحمد عقباها لذلك فإن من الأقوم أن نبيح للزوجة أن الانفصال عن هذا الزوج الغائب الاقتران بغيره.
أما إذا قال القائل أن الضرر هنا حاصل للزوج في حين تبين أنه حي فالضرر حاصل له بترك زوجته له وتدمير أسرته وتفتيت أولاده.
قلنا أن التفريق لا يحصل إلا بعد البحث والتمحيص وحصول غلبة الظن بهلاكه وإعطائه المدة التي تكفي لحصول غلبة الظن بهلاكه فإن حصل غير ذلك كنا قد عذرنا أمام الله بالتحري.
¥