ولكن الذي يثور حول هذا الموضوع هو أن هل تترتب على هذا الظلم عقوبات دنيوية؟ وما نوعية هذه العقوبات؟ ومن الذي له الحق في فرض هذه العقوبات وتنفيذها؟ هل الأفراد أم السلطة القضائية؟
وقد أقر الفقهاء جواز فرض العقوبات التعزيرية من ضرب أو حبس، أو نحو ذلك على مطل الغني بناء على الحديث السابق، والحديث الذي رواه أحمد وأصحاب السنن والحاكم وصححه وابن حبان والبيهقي بسندهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليُّ الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته) قال الحاكم صحيح الإسناد ووافقه الذهبي، ورواه البخاري تعليقاً، وقال الحافظ ابن حجر: إسناده حسن [37].
وإذا كان فرض عقوبات تعزيرية على مطل الغني جائزاً، فإن الفقهاء حصروها في أن هذه السلطة التي تستطيع فرض العقوبات التعزيرية هي السلطة القضائية، وليست من حق الأفراد، والشركات، قال المناوي في شرح هذا الحديث: (يحل عرضه بأن يقول له الدائن: أنت ظالم، أنت مماطل ونحوه مما ليس بقذف ولا فحش، وعقوبته بأن يعزره القاضي على الأداء بنحو ضرب أو حبس حتى يؤدي) [38].
وبعد هذا العرض السريع ننتقل إلى اختلاف الفقهاء المعاصرين في هذه المسألة حيث اختلفوا فيها على ثلاثة آراء:
الرأي الأول: عدم جواز فرض غرامة التأخير مطلقاً.
الرأي الثاني: جواز فرض غرامة التأخير على المدين الموسر المماطل ولكن لا يجوز للدائن أن يأخذها، بل يجب عليه أن يصرفها على الفقراء، والجهات الخيرية.
الرأي الثالث: جواز فرض غرامة التأخير وعدم وجود الحرج في أن يقوم الدائن بالاستفادة منه، وبعض هؤلاء حددها بمقدار الضرر الفعلي، وبعضهم أجازه مطلقاً.
*ويمكن حصر هذه الآراء في اتجاهين:
الاتجاه الأول: اتجاه المانعين الذين يمنعون غرامة التأخير مطلقاً.
الاتجاه الثاني: اتجاه المجيزين الذين أجازوا فرض غرامة التأخير على المدين الموسر المماطل.
وقد استدل المجيزون بعدة أدلة نذكرها مع ما يمكن من مناقشتها مناقشة علمية متجردة، وهي:
أولاً: استدلوا بثلاثة أحاديث وهي:
أ ـ قول النبي صلى اله عليه وسلم: (مطل الغني يظلم) وهو حديث صحيح سبق تخريجه.
ب ـ قوله صلى الله عليه وسلم: (ليُّ الواجد بحل عرضه وعقوبته) وهو حديث حكم بعض الرواة عليه بالصحة، والبعض الآخر بالحسن، أي فلا تقل درجته عن الحسن وهو حجة في إثبات الحكم الشرعي.
ج ـ قوله صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) [39] وهو حديث حكم عليه الرواة بالصحة، بل هو أصل من أصول المعاملات، وقاعدة أساسية من القواعد الأربع التي يرجع إليها الفقه الإسلامي كله.
فالحديث الأولان يدلان على أن مطل الغني ظلم يحل عرضه وعقوبته وإن كانت في الغالب هي الحبس، والضرب ونحو ذلك، فليس هناك مانع من العقاب بالغرامة المالية، وقد ثبت في السيرة والسنة، وسنة الخلفاء الراشدين العقوبة بأخذ المال، منها حديث بهز بن حكيم حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم بخوص المانع عن أداء زكاته: (فإنا آخذوها وشطر ماله غرمة من غرمات ربنا …) [40].
والحديث الثالث يدل بوضوح على منع الضرر والضرار، ومن المعلوم أن مطل الغني يضرّ بالبنك الدائن ضرراً كبيراً حيث يحبس ماله عن الاتجار فيه، لذلك يمكن أن تتخذ الغرامة المالية لمنع هذا الضرر، لأن الضرر يزال، وإزالة هذا الضرر إنما يتحقق بالتعويض عنه وذلك يتم عن طريق الغرامة المالية.
ويمكن أن يناقش الاستدلال بهذه الأحاديث حيث إن الحديثين الأولين لم يحددا العقوبة، وتفسيرها بالغرامة المالية على التأخير يحتاج إلى دليل، ثم إن سلطة فرض العقوبات وتنفيذها ليست للأفراد والشركات، وإلاّ كان بإمكان البنك أن يقوم بجلد المدين وضربه وحبسه، وحينئذٍ كان يحتاج إلى بناء السجون والجلادين، ولم يقل أحد من العلماء السابقين بذلك.
والحديث الثالث يدل على رفع الضرر وليس فيه دلالة على فرض العقوبات من قبل الأفراد، أو الشركات لتحقيق مصالحها، بل إن الضرر لا يزال بضرر مثله.
ثم إن الدين له ميزانه الخاص الحساس القائم على عدم الزيادة فيه لأي سبب كان، وإلاّ كانت هذه الزيادة ربا، بل جعل الفقهاء بعض العقود التابعة له في نفس الدائرة ولذلك لم يجيزوا كفالة
¥