ويؤكد قول الشيخ بأن علم الجرح والتعديل نتيجة وثمرة للتصحيح والتعليل وليس أساسا له قول الحاكم رحمه الله:
(هذا النوع من علم الحديث معرفة الجرح والتعديل، وهما في الأصل نوعان كل نوع منهما علم برأسه وهو ((ثمرة)) هذا العلم .. ) (معرفة علوم الحديث 1/ 52)
قال الشيخ المليباري:
(لقد كان النقاد يستثمرون جهدهم في تصحيح الأحاديث وتضعيفها من أجل معرفة أحوال رواتها وتمييز الثقات من الضعفاء، وتصنيفهم في سلم الجرح والتعديل بدقة متناهية)
هذا كلام صحيح فأئمة الجرح والتعديل لا يحكمون على الراوي بمجرد النظر إلى وجهه! وإنما بسبر مروياته فإذا وافق غيره كثيرا وُثق، وإذا كثرة مخالفته لهم ضُعِّف.
قال الإمام مسلم في مقدمة صحيحة (1/ 7):
(وعلامة المنكر في حديث المحدث إذا ما عرضت روايته للحديث على رواية غيره من أهل الحفظ والرضا خالفت روايته روايتهم أو لم تكد توافقها فإذا كان الأغلب من حديثه كذلك كان مهجور الحديث غير مقبوله ولا مستعمله)
فإذا كثرت مخالفته ترك، وكيف نعرف أنه يخالف كثيرا إلا بعد سبر مروياته ومن ثم يأتي الحكم على الراوي.
كما قال المعلمي رحمه الله في التنكيل1/ 67: (وهذا كله يدل على أن جل اعتمادهم في التوثيق والجرح إنما هو على سبر حديث الرواي)
قال الشيخ المليباري:
(ليكون ذلك معولاً عليه – أي: الجرح والتعديل - في التصحيح والتضعيف عند الضرورة)
فالضرورة تكون عند عدم توفر القرائن والملابسات الدالة على خطأ الراوي، ففي هذه الحالة يعوّل على ظاهر الإسناد، أما مع وجود قرائن تدل على خطأ الراوي فلا يقبل ذلك منه ولو كان هذا الراوي جبلاً في الحفظ! فهذا لا ينفعه لأنه ليس معصوما من الخطأ.
وهذا هو منهج المحدثين في التعامل مع المرويات، فهذا الإمام مسلم قد اعتمد على ظاهر الإسناد وحكم عليه بالإتصال في حال الإبهام وعدم وجود القرائن الدالة على عدم الإتصال.
قال الإمام مسلم في مقدمة صحيحه (باب الاحتجاج بالحديث المعنعن 1/ 30):
(إن القول الشائع المتفق عليه بين أهل العلم بالأخبار والروايات قديما وحديثا أن كل رجل ثقة روى عن مثله حديثا وجائز ممكن له لقاؤه والسماع منه لكونهما جميعا كانا في عصر واحد وإن لم يأت في خبر قط أنهما اجتمعا ولا تشافها بكلام فالرواية ثابتة والحجة بها لازمة إلا أن يكون هناك دلالة بينة أن هذا الراوي لم يلق من روى عنه أو لم يسمع منه شيئا فأما والأمر (((مبهم))) على الإمكان الذي فسرنا فالرواية على السماع أبدا حتى تكون الدلالة التي بيّنا)
ففي حال الإبهام وعدم وجود القرائن يعوّل على الظاهر، فهذه هي حالة الضرورة التي قصدها الشيخ المليباري.
قال الشيخ المليباري:
(على الباحث أن يقوم قبل الترجمة بتخريج الحديث تخريجاً علمياً، ليمهد نفسه للمقارنة بين ما جمعه من المرويات لمعرفة مدى الموافقة بين رواة ذلك الحديث أو المخالفة أو التفرد، ثم يقوم بترجمة الراوي الذي خالف أو الذي تفرد بالحديث ... )
قالَ الخطيبُ البغداديّ: (والسبيلُ إلى معرفةِ علة الحديث أنْ يجمع بين طرقه وينظر في اختلاف رواته ويعتبر بمكانهم من الحفظ ومنزلتهم في الإتقان والضبط) (الجامع لأخلاق الراوي 2/ 295)
فجمع الطرق لمعرفة الاختلافات بين الرواة ثم النظر إلى مكانتهم من الحفظ.
وقال الحافظ السخاوي: (وأما من لم يتوقف من المحدثين والفقهاء في تسمية ما يجمع الشروط الثلاثة (وهي العدالة والضبط والاتصال) صحيحاً، ثم إن ظهر شذوذ أو علة رده، فشاذ وهو استرواح، حيث يحكم على الحديث بالصحة (((قبل))) الإمعان في الفحص وتتبع طرقه التي يعلم بها الشذوذ والعلة نفياً وإثباتاً فضلاً عن أحاديث الباب كله التي ربما احتيج إليها في ذلك، وربما تطرّق إلى التصحيح متمسكاً بذلك من لا يحسن، فالأحسن سد هذا الباب ... ) (فتح المغيث1/ 20)
==========
ملاحظة: قال الأخ أبو عبدالعزيز السني: (إلا أن المعلمي قصره على المتقدمين والمليباري جعل علم الجرح والتعديل يرجع له المتأخرون عند الضرورة!)
كيف فهمت هذا من كلام الشيخ المليباري، وأين ذكره؟
فالشيخ يقول إن المتقدمين هم الذين يعولون على ظاهر الإسناد عند الضرورة.
فالنصوص التي نقلها الأخ عن المعلمي رحمه الله تؤيد قول الشيخ المليباري.
ـ[الشافعي]ــــــــ[06 - 10 - 03, 08:12 ص]ـ
إذا أخذ كلام الشيخ حفظه الله تعالى من غير مبالغة ودون إهدار مكانة
علم الجرح والتعديل فمراده مفهوم والأمر الذي رمى إليه واضح.
وكل من الحكم على الرجال والحكم على المرويات يؤثر في الآخر وفي
كل منهما أساسيات مستقلة عن الآخر يبنى عليها.
فالحكم على الرجال فيه قدر نتج عن معرفة حال الرجل بغض النظر عن
مروياته كما أن سبر مروياته يقدم المزيد والمفيد في الوصول إلى حكم
صحيح.
والمرويات لا يمكن الحكم عليها إلا بجمع الطرق ومعرفة الرواة والاقتصار
على أحد هذين مظنة للحكم الخاطئ.
تنبيه
قول ابن سيرين: لم يكونوا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة قالوا:
سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى
أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم
إن أخذ على ظاهره وبحرفيته فلم يحظ بالكثير من التطبيق العملي
وقد حمل أهل العلم عن بعض من نسب إلى البدع أفرادهم وهل يوجد
رجل مستقيم الحديث ردت روايته لأجل أنه من أهل البدع؟
وبالمقابل وكما تفضل الأخ الدرع ردت روايات كثير من أهل السنة لكثرة
مخالفتهم ونكارة ما رووا.
والله أعلم.
¥