تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كل مولود يولد على الفطرة " وفي رواية: " على هذه الملة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تولد بهيمة جماء هل تحسون فيها من جدعاء " ومنها حديث عياض بن حمار في صحيح مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم

أما الآثار التي استدل بها أهل القول الأول، فأجاب عنها أهل القول الثاني بأنها تدل على أن الله سبحانه صور النسمة وقدر خلقها وأجلها وعملها واستخرج تلك الصور من مادتها ثم أعادها إليها وقدر خروج كل فرد من أفرادها في وقته المقدر له ولا تدل على أنها خلقت خلقا مستقرا واستمرت موجودة ناطقة كلها في موضع واحد ثم يوصل منها إلى الأبدان جملة بعد جملة

والسؤال الآن " لماذا لا يتذكر الإنسان هذا العهد والميثاق؟ "

يقول بن باز وكون الإنسان لا يذكر الشهادة لا يستلزم أن يكون ذلك لم يقع، إذ جاءت الرسل بعد ذلك وذكرتهم بالشهادة، والحجة إنما قامت ببعثة الرسل فهم الذين ذكروهم بتلك الشهادة فقامت للرسل الحجة على الناس كما لو كان عند الإنسان شهادة ثم نسيها ثم ذكره أحد إياها وقال له: يا فلان اذكر أن عندك شهادة في وقت كذا على كذا وأيضا فإن الأخذ من ظهور بني آدم أخذ من ظهر آدم فإن ظهورهم ظهر له "

وأضيف من عندي ما يلي"

مادام الله تعالى قال بهذا العهد وقال به رسوله صلى الله عليه وسلم فقد وقع حتما وأصبح لزاما العمل به وقامت به الحجة على البشر، بحيث لا يتعلل أحد يوم القيامة بالجهل أو النسيان أو الغفلة، أما عن عدم التذكر فأن ذلك راجع إلى وقوع الحدث في عالم آخر يختلف في تكوينه وهيئته ونشأته عن عالم الدنيا الماثلة، وهو المعبر عنه بعالم الذر، وهو من حيث هذه الكينونة والهيئة كعالم البرزخ الذي هو بعد الموت والذي يفصل بين الحياة الدنيا وبين الآخرة، أو كعالم يوم القيامة. ففي هذه العوالم تختلف هيئات الإنسان عنها بالنسبة إلى عالم الدنيا، ففي عالم الدنيا تكون قدراته محدودة بحدود احتياجه منها. فسمعه محدود وبصره محدود وقدرته على الكلام محدودة وقدرته على الحركة محدودة ... وهكذا في كل تكوينه، حتى قدراته العقلية والذهنية والفكرية محدودة، فهو من ثم لا يستطيع أن يفكر أو يعقل أو يبدع إلا في حدود معينة، ومن هذا القدرات الذاكرة، حيث تقف قدراته من حيث التذكر عند حد معين لا يمكنه تعديه، بينما في العوالم التي ذكرتها (الذر والقبر والبرزخ ويوم القيامة) تختلف مكونات الإنسان وهيئاته حسب مكونات هذه العوالم بحيث يتكيف معها ويتحملها، ويبدأ هذا الاختلاف من لحظة الموت وبدء الانتقال إلى العالم الأخر. قال تعالى (لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد) ق آية 22، أي ساعة الموت، قال الطبري " فانكشف الغطاء عن البر والفاجر فرأى كل ما يصير إليه "، لذا فأن أهوال يوم البعث والنشور من الهول بمكان بحيث لا يستطيع المرء على هيئته الدنيوية التي هو عليها الآن تحمله لمجرد السماع عنه أو تخيله، فكيف سيتحمل جسده الضعيف هذا هذه الأهوال، إلا إذا كان هذا الجسد سيختلف في تكوينه عما هو عليه الآن بحيث يقوى على التحمل. لذا قال صلى الله عليه وسلم " ضرس الكافر أو - ناب الكافر - مثل أحد وغلظ جلده مسيرة ثلاث " أي في النار وفي رواية أخرى عن أبي هريرة قال صلى الله عليه وسلم " ثم ما بين منكبي الكافر في النار مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع " صحيح مسلم

وقال عن المؤمن في الجنة " إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر والذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة لا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون ولا يتفلون أمشاطهم الذهب ورشحهم المسك ومجامرهم الألوة وأزواجهم الحور العين أخلاقهم على خلق رجل واحد على صورة أبيهم آدم ستون ذراعا في السماء " صحيح مسلم

ومن هذا المنطلق نقول أن العهد وإذ أخذه الله تعالى على بني آدم جميعا في عالم الذر قبل أن يعيدهم أجنة في بطون الأمهات، فقد نسيه الإنسان حتما بعد خروجه من بطن أمه وبدء عهده الجديد بالدنيا، لأن قدراته الذهنية المحدودة لن تدع له بعدا أكبر للذاكرة من البعد الذي يحيا به في حياته هذه الدنيوية، وربما يستعيد هذه الذاكرة عندما ينكشف عنه الغطاء ويصير بصره حديد عند الموت، بينما الأحياء من حوله لن يروا ما يراه ولن يسمعوا ما يسمع ولن يتذكروا ما تذكر. وهذا مايفسر عذاب القبر أو نعيمه الذي يحدث للمقبور فيشعر به وحده ولا يشعر به الحي.

ولقد وصل إلى هذا المعنى من حالة أخرى تقرب المعنى.

يقول الله تعالى " ولو ترى اذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بايات ربنا ونكون من المؤمنين بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وانهم لكاذبون، (الأنعام (26، 27) فسألت نفسي كيف ذلك؟ إن الإنسان في حياته الدنيا ربما يمرض مرض شديدا فيعاهد الله تعالى لئن شفاه من هذا المرض ليكونن من الصالحين، أو يتعرض لمحنة فينذر أو يعاهد ربه لئن أنجاه منها ليتوبن وليكونن من المتقين. وقد يصدق وينجح ويكون فعلا من الصالحين ومن المتقين. فكيف بإنسان يدخل جهنم - وما أدراك ما جهنم - فيعاهد الله تعالى لئن رده إلى الحياة الدنيا ليكون من الصالحين، فيخبرنا الله تعالى – ومن أصدق من الله قيلا – أنه إذا عاد سيعود إلى ما كان عليه من الأسباب التي أوردته جهنم هذه!

الإجابة هي أنه عاهد الله هذا العهد في عالم الآخرة وداخل جهنم ذاتها، حيث اختلفت مكوناته وقدراته، فإذا ما عاد إلى الدنيا فلابد أن يعود بذات القدرات والمكونات الدنيوية التي كان عليه قبل موته، وعندئذ لن يتذكر شيئا لأن حدود الذاكرة عنده لن تسمح له بذلك، فينسى فيعود إلى كفره فيموت فيلقى نفس المصير. والله أعلم

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير