وقد وقفت على رسالة للكوثري حول الموضوع لعل طالب العلم ينتفع بما فيها مع التنبه
أحاديث الأحكام
وأهم الكتب المؤلفة فيها
وتناوب الأقطار الإسلامية في الاضطلاع بأعباء علوم السنة (1)
لمحمَّد زاهِد الكوثري
لا بد لمن ينتمي إلى الفقه من أن يكون ذا عناية بالأحاديث والآثار الواردة عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم في الأحكام الأصلية والفرعية، ليكون على بيِّنةٍ من أمره، فيصونَ نفسه من محاولة إجراء القياس على ضد المنصوص، ويحترزَ من مخالفة الإجماع في المسائل المجمَع عليها؛ لأنه لا يمكن تفريق ما يصح فيه القياس مما لا يصح هو فيه، وتمييزُ ما يستساغ فيه الخلاف مما لا يسوغ فيه غيرُ الاتباع المجرد، إلا لمن أحاط خبرًا بموارد النصوص، ووجوه التفقه فيها، واستقرأ الآثار الواردة من فقهاء السلف في الأحكام.
فهو الذي يقدر أن يتصون من القياس في مورد النص، وهو الذي يستطيع أن يحترز من الخلاف في موطن الإجماع.
ولذلك تجد علماء هذه الأمة وأدلاءها قد سعوا سعيًا حثيثًا - في جميع الأدوار - في جمع أدلة الأحكام، والكلامِ عليها متنًا وسندًا ودلالة، على اختلاف أذواقهم ومشاربهم في شروط قبول الأخبار، وعلى تفاوت مداركهم في النصوص والآثار.
وكانت أمصار المسلمين تتناوب في الاضطلاع بأعباء علوم السنة مدى القرون، إن قصَّر في ذلك قطر قام قطر آخر بواجبه في هذا الباب وهكذا.
وكانت من أكبر الأقطار حظًّا من العلوم، ما بين شرعية وعقلية وأدبية، ولا سيما علوم السنة والفقه: البلادُ العراقية أيام مجد الدولة العباسية إلى تاريخ انقراضها.
وما خلف علماؤها من المآثر الخالدة شاهد صدق على ذلك.
ثم خلفتها - في حيازة القِدْح المُعلّى في العلوم - الدولة المصرية على اتساع ممالكها في عهد الدولتين البحرية والبرجية، وإن كان للمغرب فضل غير منكور في جميع الأدوار.
والآثارُ الباقية من الدولتين، والجامعات العلمية التي كانت الملوك والأمراء شيدوها: لم تزل ماثلةً أمامنا تنطق عن ماضٍ مجيد، ولم نزل نشاهد في التاريخ مبلغ ما كانوا يدرّون عليها من الخيرات في سبيل العلم، مع مشاطرة كثير من ملوكهم وأمرائهم العلماء في علومهم.
وها هو الظاهر برقوق يتفقه على الإمام أكمل الدين البابرتي، ويشارك المحدثين في رواية الصحيحين، ويجلب أمثال ابن أبي المجد من كبار المسندين من الأقطار النائية رغبة منه في إعلاء سند المتعلمين بمصر بسماعهم الحديث من أصحاب الأسانيد العالية.
ويفعل مثل ذلك المؤيد حيث كان هو نفسه يروي الصحيح عن الإمام البُلْقيني، بل ابن حجر سمع الحديث من المؤيد هذا، وترجم له في عداد شيوخه في (المعجم المفهرس). وقد جلب المؤيد إلى مصر العلامة شمس الدين الديري صاحب (المسائل الشريفة في أدلة مذهب الإمام أبي حنيفة).
وكذلك ترى الظاهر جقمق يسمع الصحيح من ابن الجزري، ويجلب كبار المسندين إلى مصر ليتلقى منهم المتعلمون بمصر مروياتهم في السنة من الصحاح والمسانيد، ويجعل القلعة المصرية مجمع هؤلاء العلماء وموضع تلقي المتعلمين لتلك الكتب من هؤلاء المسندين، تنويهًا بأمرهم وإعلاءً لشأن العلم.
وبهذه العناية والرعاية من الملوك والأمراء كانت مصر دارَ حديث وفقه وأدب في القرون الثلاثة: السابع والثامن والتاسع، وها هي كتب التاريخ قد اكتظت بتراجم رجالٍ كبار أنجبتهم مصر بكثرة بالغة في تلك العصور الذهبية، ممن لهم مؤلفات كثيرة جدًا في شتى العلوم، بحيث يعدون مفاخر الإسلام طرًّا فضلاً عن مصر، بل مآثرهم المحفوظة في خزانات العالم مما يقضي لمصر بالفخر الخالد، ومؤلفاتهم في الحديث والفقه والتاريخ خارجة عن حد الإحصاء.
وقد استمرت النهضة العلمية بمصر على ما وصفناه إلى أوائل القرن العاشر.
فبانقراض الدولة المصرية البرجية في أوائل ذلك القرن تضاءل النشاط العلمي بمصر بل تزعزعت أركان العلم بها، وغادر هذا النشاط القطر المصري إلى أقطار أخرى، كما هو سنة الله في خلقه، فإذا قارنت رجال أواخر القرن العاشر برجال القرون الثلاثة التي سبقته، علمت مبلغ ما أصيبت به مصر من الانحطاط العظيم في العلم حين ذاك.
¥