إنّ دعوى التناقض بين آيات القرآن ليست جديدة، بل يظهر من بعض النصوص أنها رافقت نزول القرآن زمنياً، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد نهى عن القول بتناقض القرآن، وأن مجادلات وقعت بين الصحابة في معاني القرآن الكريم أو قراءته مما يفهم منه الاختلاف في المعاني أدى إلى غضبه (ص) غضب غضباً شديداً وإعلانه كفر من (ضرب القرآن بعضه ببعض).
وقد حاول بعض العلماء تأويل تلك النصوص لإنكار وقوع الاختلاف بين الصحابة بشأن القرآن الكريم ومعانيه.
ومن الواضح أن اختلاف الخلق في القرآن أو قولهم بوجود التناقض هو أمر عادي وليس أسوأ ممن قال هو من (قول البشر)، فبعض تلك المجادلات كانت لغاية فهم القرآن لا اتهامه، وإذن فإنكار البعض من العلماء بوقوع الجدال بين السلف لا علاقة بإثبات أو نفي أن القرآن نفسه متناقض.
والمنهج يرى العكس من ذلك، ويرى أنهم إن لم يختلفوا فيه قط فمعنى ذلك أحد ثلاثة أشياء: إما أنه كلام عادي جداً لا يمتلك صفة البقاء والديمومة والأعماق العديدة للمعاني، وهو إبطال للإعجاز كما تعلم فيفهمه لذلك جميع الناس فهما واحدا، وإما أنهم تاريخيا وقرآنيا من خلال توبيخه لمخالفات هي أكبر من ذلك في قدرتهم على تنفيذها ومردود واقعيا من خلال ما نجده من اختلاف مستمر وهو فرع لذلك الاختلاف الأول، أو يكون معناه أنهم بمستوى واحد من العلم الإلهي والإطلاع الديني بحيث يفهمون كلام الله على مراده الحقيقي بغير اختلاف ولا تناقض ... وهو أمر لا يقبله عاقل.
وإذن فالاعتراف بوقوع القول في تناقض القرآن هو اعتراف بواقع يحتمه جهل الناس بكلام الله لا علاقة له بحقيقة كون التناقض موجود في القرآن ويؤكده واقع الاختلاف بين علماء الأمة بشأن معاينة مفسرين أو بلاغيين أو نحويين أو كلاميين أو فقهاء.
فمن يكون الذين اختلفوا فيه حتى يكون اختلافهم اتهاما للقرآن؟
أهم أنبياء أم أولياء أم أوصياء أم أصفياء أم نزل بعلمهم أم خصهم بتأويله أم كلف الخلق باتباعهم؟ كلا أن هم إلا خلق الله، قرءوه فما تدبروه وتلوه فما تلوه حق تلوته، فإن اخطئوا فلجهلهم وإن أصابوا فبما تعلموا من القرآن نفسه.
لكن الأمر يكون واضحاً إذا تذكرت أن منكري وقوع الاختلاف هم أنفسهم الذين اختلفوا فيه لان هذه الرّدود إنما هي ردود العلماء.
وكان الأولى الاعتراف بوقوع الاختلاف والبحث عن سببه وطريقة إزالته لان القرآن نفسه له رأيه الواضح في هذا الأمر.
فهناك قاعدة قرآنية لإيضاح هذا الاختلاف وأسبابه ونتائجه وحذّر منه القرآن بناء على ما وقع في الكتب الإلهية السابقة، قال تعالى ? وما أَنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه? (النحل64).
فالكتاب إذن أمان من الاختلاف، وحدوث الاختلاف في نفس الأمان جريمة منكرة! لأن معناها إخراج الأمر البين الواضح من قدرته على التوضيح إلى أمر غير واضح ومبهم.
ومعنى ذلك أن هناك قصد لإبقاء الاختلاف بعد التوضيح فقال: ? ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات ? (آل عمران 105).
ثم أوضح أن الكتاب لا يمكن أن يُختلف فيه لأنه إنما نزل حصرا لتوضيح الأشياء (إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه).
ولما كان الله يحاسب الجميع ويلقي الحجة على الجميع فالقرآن يؤكد أن الاختلاف لم يحصل قط نتيجة (الجهل) أو (عدم الوضوح) أو (الإبهام) بل حدث دائماً بعد حصول المعرفة والتوضيح:
- ? فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم ? (الجاثية 17)
- ? ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات ? (آل عمران 105).
- ? وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم ? (آل عمران 19)
- ? وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات ? (البقرة 213)
فلماذا حدث الاختلاف إذن، إذا كان كل شيء واضح وبين؟
يجيب القرآن على هذا السؤال بقوله تعالى: وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم ? (آل عمران 19)
? وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم? (البقرة 213)
والآن نجمع نتائج الآيات جمعا هندسيا بنظام القرآن:
الأول: لاحظ أدوات الحصر: ما اختلف فيه إلا الذين أوتوه. أي الذين لم يؤتوه لم يختلفوا.
الثاني: ما اختلفوا إلا بعد مجيء البينات والعلم، إذن لم يكونوا جاهلين به!
¥