تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

الدليل الثاني:

يقول الباحث: «فالآيات من أول السورة جاءت لتفصل بين المؤمنين وبين الكافرين، بين المصلحين والمفسدين في الأرض، وتلكم هي مناطات الاستخلاف في الأرض " وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء ". فهذه هي المرتكزات والأصول الأولى، من سيؤمن ومن سيكفر! ثم تسترسل الآيات حتى تصل إلى " كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً "، فانسياب السياق ابتداء من الإيمان والكفر إلى الاستخلاف في الأرض جلي لِلعيان. ثم ما تلبث القصة أن تصل إلى هذا المعقد الأول مباشرة بعد هبوط " الفريقين الضدين " إلى الأرض ليوصي الله بهذا المعقد الأصل مرة أخرى " قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ". ومن أجل أننا لا نرى المفسرين يبنون موضوعا موحدا لتأويل مشكل ما، فأن يقول أحدهم في معرض تأويله لأسماء " هؤلاء ": هي أسماء الأشياء، ثم لا يبني ما يرى على السياقات والمباني المشتركة للسورة نفسها، أو يقول: هي أسماء النبيين، هكذا دون بناء موضوعي، ولا إسناد دلالي، يشدّ مذهبه ويقنع سامعه، بل قول بظنّ وحسب، فهذا ما لا يصلح أن يكون تأويلاً، مهما علا شأن قائله من دون النبي. فمن هذا الباب نلج أية الاستخلاف، وبهذا المفتاح نفتح مكامنها، ونحن مطمئنون مستندون إلى شديد، ألا وهو السياق الموضوعي الذي لا يخلو منه كلام الناس، عدا أن يخلو منه كلام الرب الحكيم.»

ولكن التأمّل في نظم الآيات يرشدنا إلى حقيقة لا تقل أهمية عما ذهب إليه الباحث، إن لم تكن أهم منها بألف مرة! ألا وهي أن القطيعة والإفساد في الأرض ليس لهما أصل ثابت في هذا الكون، وإنما هي أحوال طارئة لا تلبث أن تنقشع، والجولة الأخيرة الفاصلة دائماً تكون للخير والصلاح. ولم يكن جزع الملائكة وقلقهم في أول الأمر إلا لخفاء هذه الظاهرة عليهم، فلما أنبأهم آدم عليه السلام بأسماء ذريته الطيبّين الطاهرين، الذين سيصمدون للباطل ويكونون معه دائماً في صراع مرير، عرفوا حقيقة الأمر وأدركوا حكمة الله في إرادته.

ولقد أحسن الإمام ابن كثير رحمه الله في تأويل قوله تعالى: " إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ "، حيث يقول: «أي: أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها ما لا تعلمون أنتم، فإني سأجعل فيهم الأنبياء وأرسل فيهم الرسل، ويوجد منهم الصديقون والشهداء والصالحون والعبّاد والزهّاد والأولياء والأبرار والمقرّبون والعلماء العاملون والخاشعون والمحبّون له تبارك وتعالى المتّبعون رسله صلوات الله وسلامه عليهم» (تفسير ابن كثير: 1\ 72). ولقد سبقه قتادة إلى هذا التأويل، حيث قال: «فكان في علم الله أنه سيكون في تلك الخليقة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنّة» (المحرر الوجيز: 1\ 121 - 122).

وعلى هذا فإن تلك الآيات توحي بنظمها أن هذا التكريم الذي خصّ الله به آدم ليس للمفسدين الفاسقين منه نصيب، فإن الخلافة ليست إفساداً في الأرض ولا نقضاً للميثاق، وإنما هي العبادة والتقوى والإيمان بما أنزل الله.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير