تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

واحد وليس فيها غيره، فجاءه رجل ما ليثني عليه فقال: إننا في هذه البلد لا نتطبب إلا عندك، ولا نثق إلا بك! لكان في قوله نظر. إذ الرجل لا يملك أصلا أن يتطبب عند غيره، فهذا ليس محل اختيار صالح! كذلك فعلت الملائكة، فذكرت ما يفعله المختار، في محل لا يصلح فيه الاختيار»!!!

ولا ندري ماذا أراد الباحث بهذا مثلاً؟ وما الذي حمله إلى ادّعاء هذه الاختيارية في قول الملائكة: " وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ "؟ فلو أنه وقف مع النصّ القرآني، وتحاكم إليه، لأمدّه بما يريح فؤاده. إذ لا يخفى على أحد – ولا نظنّه قد خفي على أحد من المفسرين - أن ذكر (اللام) في " وَنُقَدِّسُ لَكَ " قد جاء لحكمة مقصودة، تقرّر المعنى المراد، وتحقّق الإعجاز البياني الرفيع في نظم هذا الكتاب الحكيم. أما أن يكون المعنى المراد منها الاختيارية، كما يدّعي الأخ أبو عرفة، فلا. إذ لا شك أن الملائكة يسبّحون لربّهم بالليل والنهار وهم لا يفترون ولا يسأمون، فقد شهد القرآن بذلك، وشهدت به الأحاديث الصحيحة الثابتة، فلا يتصوّر أحد أن ينوّه الملائكة هم أنفسهم بطاعتهم وعبادتهم أو بتسبيحهم وتقديسهم لربّهم، ويُعتبر هذا الأمر من المسلّمات عند الجميع!

ولذلك فإن قوله: «ولو اكتفت الملائكة بذكر الفعل نفسه لكان قولهم صواباً عدلاً»، باطل جملة وتفصيلاً! وكلامه هذا يشعرنا بأنه ترك النصوص الظاهرة، ومعانيها الصريحة، هرباً من الوقوع في مثل المحالات التي يتصوّرها، وراح يؤول تلك النصوص ويسرف في تأويلها بعيداً عن المراد، ولو أنه فرّق بين تعدية الفعل إلى المفعول به بنفسه، وبين تعدّيه إليه بحرف (اللام)، لما وقع فيما وقع فيه، ولما احتاج إلى تلك التأويلات البعيدة، من مثل "الاختيارية" التي ابتكرها ليوجد بديلاً آخر لمفهوم " الأسماء ". ولبيان ما نذهب إليه، نمثّل فيما يلي بشواهد من القرآن الكريم على استعمال هذه (اللام)، لنوضّح ما لمسناه من لطائف البلاغة فيها، حتى يكون حافزاً لمن تطلّع إلى الفحص عن بقيّتها.

يقول الله تبارك وتعالى: " إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ " (الأعراف: 206)، ويقول تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا " (الأحزاب: 41 - 42)، ويقول تعالى: " سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى " (الأعلى: 1)، ويقول تعالى: " سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " (الحديد: 1)، ويقول تعالى: " سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " (الحشر: 1).

فأنت تلاحظ أن صيغ التسبيح في الآيات المذكورة جاءت مختلفة. فمرة تعدّى الفعل " سبّح " إلى المفعول به بنفسه، كما في قوله: سبّح الله، ومرة تعدّى إليه بحرف (اللام)، كما في قوله: سبّح لله. فهل أن هاتين الصيغتين تؤدّيان المعنى نفسه؟ كلا، ثم كلا!

فـ (اللام) في " سبّح لله " تُسمّى عند النحويين (لام التقوية) أو (لام التعدية)، لأنها تقوّي وصول الفعل إلى المفعول به، فهو يصل إلى المفعول به بواسطتها، ويتعدّى إلى المفعول به عن طريقها. أما البلاغيون فقد اختلفوا في دلالتها: فهي عند الزمخشري للتوكيد، أي: تؤكّد تسبيح المخلوقات لله، فهي مثل اللام في نَصحتُ له، فأنت تقول: نَصحتُه. وإن أردت التوكيد تقول: نصحتُ له. وهكذا في التسبيح، تقول: سبّحت الله. وإن أردت التوكيد تقول: سبّحت لله. (الكشاف: 4\ 472). وهي عند السمين الحلبي لام التعليل، أي: أحدث التسبيح لأجل الله، وعلّة التسبيح ابتغاء وجه الله. (الدرّ المصون: 1\ 235). وهي عند ابن عاشور لام التبيين، وفائدتها زيادة بيان ارتباط المعمول بعامله، أي زيادة ارتباط التسبيح بالذي يسبّح الله. (التحرير والتنوير: 27\ 357). وهي عند ابن هشام الأنصاري لام الاختصاص. (مغني اللبيب 1\ 217). وكما ترى، فلا مانع من اجتماع المعاني الأربعة في (اللام)، فهي للتعليل وللتبيين وللتوكيد وللاختصاص، ولا تعارض بين المعاني الأربعة.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير