تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

إن الذين قالوا بأن الفطرة الإنسانية قابلة للخير والشرّ في أصل جبلّتها هم طائفة من المتكلمين (يُنظر: رسائل ابن حزم، ج3، ص201). أما مذهب جمهور علماء السلف فهو أن أصل الفطرة المترسّبة في أعماق النفس البشرية هو التوحيد والاعتراف بالله رباً وخالقاً (يُنظر: ابن الوزير، إيثار الحق على الخلق، ص21). فالله تعالى خلق البشر لمصلحتهم من معرفته سبحانه وعبادته وطاعته، وفُطروا على ذلك وهُيّئوا له ومُكّنوا منه، وجعل فيهم الاستعداد والقبول، وبهذا قامت حُجّة الله عليهم وظهر عدله فيهم. أما استكبارهم أن ينقادوا لطاعته وتوحيده ومحبّته، فهذا أمر طاريء خارج عن مقتضى الخلقة وأصل الفطرة، كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن عياض بن حماد المجاشعي، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيما يرويه عن ربه عزّ وجلّ، أنه قال: "إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرّمَتْ عليهم ما أحللتُ لهم، وأمَرَتْهم أن يُشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً " (صحيح مسلم، ج4، ص2197). وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " ما من مولود يولد إلا على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه " (مسند الإمام أحمد، ج14، ص7699). فأخبر أن أصل ولادتهم ونشأتهم على الفطرة، وأن التهويد والتنصير والتمجيس طاريء طرأ على الفطرة وعارض عرض لها، واقتضى هذا العارض الذي عرض للفطرة أموراً استلزمت ترتيب آثارها عليها بحسب قوّتها وضعفها (يُنظر: الصواعق المرسلة لابن القيم، ص211).

الثاني:

لقد أكّد القرآن الكريم على أن الدين هو الفطرة، وهو الوحدانية، قال تعالى: " فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ " (الروم 30). فقد لازم الله تعالى في هذه الآية بين الدين والفطرة على " أنه عينها – أصلاً وجوهراً ومقتضيات – وقرّر صراحة أنه لا تناقض بينهما، وأنه (الدين القيّم) فالفطرة قيّمة، وأنه (لا تبديل لخلق الله) فلا تبديل لشرع الله، مما يوحي أيضاً بأنه لا يجوز الخروج عن مقتضياتها، فالقرآن الكريم إذ يعقد هذه المقابلة، ويؤكّد تلك القضايا ولوازمها المنطقية، فإنما يقصد إلى تبيين وجه الحق في جوهر الفطرة الإنسانية، وأنها مفطورة أصلاً على الخير المحض " (يُنظر: دراسات وبحوث في الفكر الإسلامي لفتحي الدريني، ج2، ص492). فالوحدانية هي الفطرة نفسها التي فطر الله الناس عليها في أصل نشأتهم، وأما ما يحدث لهذه الفطرة من انحراف عن هذا الأصل – وهو سبب الإشراك بالله سبحانه وتعالى – فهو بسبب ما يعتريها من حالات نفسية، وعوامل خارجية مؤثّرة، ولا سيّما في المراحل المبكّرة للنشأة الأولى، وما يسود فيها من أعراف وتقاليد موروثة متحكّمة، أو ما يجري فيها من تيارات جارفة، وفلسفات اجتماعية، وسياسية وافدة ومتخالفة وغيرها من المؤثّرات.

الثالث:

لقد فُطر الناس على التوحيد، وهذا التوحيد توحيد فطري غريزي أودعه الله في نفوسهم، كما أودع فيهم غرائزهم ومشاعرهم وخصائصهم النفسية والجسدية، التي لا يملكون الانفكاك عنها، ولا يستطيعون رفضها. ومن هنا، حينما وُجّه السؤال إلى بني آدم في الميثاق الذي أُخذ عليهم – وهم في عالم الذر: " وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ "، قالوا: " بَلَى شَهِدْنَا ". ومعنى قوله (شهدنا): أي قالوا: بلى شهدنا أنك ربنا. وهذا قول ابن عباس وأبيّ بن كعب رضي الله عنهم. فواضح هنا إقرارهم بالله واعترافهم بوحدانيته فطرة. وأقوى ما يشهد لصحّة هذا القول ما روى الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء، أكنت مفتدياً به؟ قال: فيقول: نعم، قال: فيقول: قد أردت منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئاً، فأبيت إلا أن تشرك بي شيئاً " (مسند الإمام أحمد، 3\ 127، 3\ 129. صحيح مسلم، 8\ 134، صحيح البخاري، 4\ 239). وهذا يدلّ

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير