تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

3 - الغفلة عن التعاليم الإلهية: فقد فُطر الإنسان على التوحيد غريزة وجبلّة، وطُلب إليه أن يؤكّد هذا التوحيد عن طريق استخدام العقل والحواس وملاحظة آيات الله الدالّة عليه الشاهدة بوحدانيته، وأن لا يغفل عنها، ويمرّ بها معرضاً عنها. ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ، ولم يُترك الإنسان لفطرته وحواسه وعقله، بل اقتضت حكمة الله سبحانه أن يرسل إليه الرسل، وينزل إليه الكتب، التي تؤكّد ما يشعر به غريزة وفطرة، وما يلاحظه بعقله وحواسّه، ومن هنا لا تكمل مسؤولية الإنسان إلا بعد إرسال الرسل مبشّرين ومنذرين، قال تعالى: " رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا " (النساء 165). وهكذا يصف القرآن الذين يعرضون عن تعاليم الأنبياء والرسل بأنهم غافلون، قال تعالى: " فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ " (الأعراف 136)، وقال تعالى: " سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ " (الأعراف 146).

ومن كل ما سبق يتبيّن لنا أن المسؤولية أمام الله سبحانه وتعالى إنما تكون نتيجة غفلة الإنسان عن التوحيد المغروس في النفس الإنسانية فطرة وغريزة، والذي تشهد له التأمّلات الذهنية، والنظرات العقلية، القائمة على ملاحظات الحواسّ ومشاهداتها، كما تشهد له الكتب السماوية، والتعاليم الإلهية، المنزلة على الأنبياء والرسل. وعلى هذا نجد القرآن الكريم يرتّب المسؤولية على الإنسان نتيجة غفلته عن هذين الأمرين الكبيرين. ففي مجال الغفلة عن استعمال الحواس يقول القرآن عن الكافرين يوم القيامة: " وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ " (تبارك 10 - 11). وفي مجال الغفلة عن الرسالات السماوية وتعاليمها وعقوبة الغافلين عنها يقول القرآن الكريم: " يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ * ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ " (الأنعام 130 - 131). ويلاحظ أن النفي في هذه الآية الأخيرة إنما جاء منصبُّ على الجملة الحالية، والمعنى: إن الله لا يهلك قوماً في حال غفلتهم، أي: عدم إنذارهم، بل لا يهلك أحداً إلا بعد الإعذار والإنذار على ألسنة الرسل، كما أشارت إلى ذلك الآيات القرآنية، منها قوله تعالى: " مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً " (الإسراء 15).

وبذلك يتحرّر الإنسان من سلطان الغفلة بكل معانيها: الغفلة الحاصلة نتيجة سوء استخدام الملكات، والغفلة الحاصلة نتيجة الإعراض عن الرسالات، وتسير الملكات والرسالات جنباً لجنب مع الفطرة، مؤكّدة حقيقة واحدة، وتصنع من الإنسان كلاً موحَّداً، لا انفصام بين فطرته وملكاته ورسالته، فيكون أقوى ما يكون لمواجهة ما قد يقف أمامه من عقبات، وما يمكن أن يعترضه من صعاب. وهكذا يتمّ الله تعالى حُجّتة على الناس: بالفطرة والرسل.

أما أن تقوم الحُجّة على الناس بتعليمهم أسماء الأصنام، والطواغيت، والمنحوتات، والشياطين، وكل ما سيُعبد من دونه سبحانه وتعالى، ثم ينهاهم عنها - كما يدّعي الباحث - فأي حُجّة هذه؟ وهل تُقام الحُجّة بهذا العلم؟ كأن يقول الله سبحانه لآدم عليه السلام: هذا الصنم اسمه هُبل، وهذا اسمه العزّى، وهذه اسمها مناة، وذاك اسمه كيت .. وهكذا، ثم يأمره باجتنابها جميعاً هو وذريته؟

وإذا كانت التآويل التي ذهب إليها المفسرون - رحمهم الله جميعاً - لا تخلو من «اضطراب مع سياق الموضوع، وارتباطه بما قبله وما يليه من المبنيات والمتتاليات على ما جرى بعدها .. » على حدّ زعم الباحث .. فإن في هذا التأويل ما يجعل من الاضطراب اضطرابين، إن لم تكن اضطرابات. فليتأمّل اللبيب هذا المحل، ولينصح نفسه، وليقم معه. فإن توحيد الربوبية لا يحتاج إلى دليل، فإنه مركوز في الفطر. والله الموفق، لا رب غيره، ولا إله سواه.

يتبع ..

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير