تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

الأول: يرى جمهور المفسّرين والعلماء أن جملة " وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ " ابتداء وخبر، والجملة في موضع الحال، وأن مفعول " تَعْلَمُونَ " متروك لأن الفعل لم يُقصد تعليقه بمفعول، بل قُصد إثباته لفاعله فقط، فنزل الفعل منزلة اللازم. يقول أبو حيان: " مفعول تعلمون متروك لأن المقصود إثبات أنهم من أهل العلم والمعرفة، والتمييز تخصيص العلم بشيء ". ويقول الزمخشري: " ومفعول " تَعْلَمُونَ " متروك كأنه قيل: وأنتم من أهل العلم والمعرفة ". وعلى هذا يكون المعنى: وأنتم ذوو علم. فإن قيل: كيف وصفهم بالعلم وقد نعتهم بخلاف ذلك من الخَتْم والطَّبْع والصَّمَم والعَمَى؟ يقول القرطبي: " الجواب من وجهين: أحدهما: " وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ " يريد العلم الخاص بأن الله تعالى خلق الخلق وأنزل الماء وأنبت الرزق؛ فيعلمون أنه المنعِم عليهم دون الأنداد. الثاني: أن يكون المعنى وأنتم تعلمون وحدانيّته بالقوّة والإمكان لو تدبرتم ونظرتم ". ويقول ابن عاشور: " المراد بالعلم هنا العقل التام وهو رجحان الرأي المقابل عندهم بالجهل على نحو قوله تعالى: " قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ " (الزمر: 9). وقد جعلت هذه الحال محطّ النهي والنفي تمليحاً في الكلام للجمع بين التوبيخ وإثارة الهمّة، فإنه أثبت لهم علماً ورجاحة الرأي ليثير همّتهم، ويلفت بصائرهم إلى دلائل الوحدانية، ونهاهم عن اتخاذ الآلهة أو نفي ذلك مع تلبّسهم به، وجعله لا يجتمع مع العلم توبيخاً لهم على ما أهملوا من مواهب عقولهم وأضاعوا من سلامة مداركهم ".

الثاني: لو كان معنى " وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ": وأنتم تعلمون أسماء الأنداد، فقد سبق وعلّمها أباكم آدم من قبل، لكان أولى بالقرآن العظيم أن يأتي بالجملة الاسمية ليبطل أي مفهوم آخر لما " تعلمون "، أي بصيغة (عالِمين). لأن (عالمين) تعني الحكم الثابت المطلق الذي لا يُبقي أي مجال للاستثناء، ولكن " تعلمون " وهي فعل مضارع، تبقي مجالاً لاحتمالات عديدة. فلا شكّ أن (محمداً مجتهد) أوكد من (محمد يجتهد)، لأن الاسم (معناه هنا الصفة) يدلّ على زمن مطلق وحكم ثابت لا استثناء فيه، أما الفعل فيدلّ على زمن نسبي يتكرّر فيه العلم بالشيء. ولذلك أطنب القرآن بإيجاز ترك المفعول، أي: وأنتم تعلمون أن لا معبود حقيقياً ولا خالق ولا قادر مطلقاً ولا منعم إلا هو سبحانه. وكذا وأنتم تعلمون أن الآلهة والأصنام ليست بشيء، لا تقتدر على شيء وأنها مخلوقة مجعولة تتخيّلونها. فالجملة الفعلية: " تعلمون " تطرح كثيراً من المعاني المحتملة، منها: وأنتم تعلمون أن الله سبحانه هو المعبود فلا تشركوا، وتعلمون أنه هو القادر المطلق والأرض والسماء في قبضته فلا تعتقدوا له شريكاً، وتعلمون أنه هو المنعم فلا تشركوا في شكره، وتعلمون أنه هو خالقكم فلا تتخيّلوا له شريكاً، وتعلمون (إن كان خطابه بـ"يا أيها الناس" موجّهاً لأهل الكتاب) أنه لا ندّ له في التوراة والإنجيل ..

الثالث: لو كان معنى " وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ": وأنتم تعلمون الأنداد وأسماءها، فقد سبق وعلّمها أباكم آدم من قبل، لكان أولى بالقرآن العظيم أن يأتي بالفعل "تعرفونها"، لأن المعرفة أخصّ من العلم، ولأنها علم بعين الشيء مفصّلاً عمّا سواه، أما العلم فيكون مجملاً ومفصّلاً .. إذ كل معرفة علم وليس كل علم معرفة، وذلك أن لفظ المعرفة يفيد تمييز المعلوم من غيره، ولفظ العلم لا يفيد ذلك .. والشاهد قول أهل اللغة: إن العلم يتعدّى إلى مفعولين ليس لك الاقتصار على أحدهما إلا أن يكون بمعنى المعرفة، كقوله تعالى: " لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ " (الأنفال 60)، أي لا تعرفونهم الله يعرفهم. وإنما كان ذلك كذلك لأن لفظ العلم مبهم، فإذا قلت: علمت زيداً، فذكرته باسمه الذي يعرفه به المخاطب لم يفد، فإذا قلت: قائماً، أفدت لأنك دللت بذلك على أنك علمت زيداً على صفة جاز أن لا تعلمه عليها مع علمك به في الجملة، وإذا قلت: عرفت زيداً، أفدت لأنه بمنزلة قولك: علمته متميّزاً من غيره، فاستغنى عن قولك: متميّزاً من غيره، لما في لفظ المعرفة من الدلالة على ذلك. (ينظر الفروق اللغوية، ص93 - 94).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير