تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ثم انظر إلى قول إبراهيم عليه السلام في سورة الشعراء: " فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي " (الشعراء: 77)، فإنه لمّا ذكر أنهم – أي الأصنام - لا يستحقّون العبادة خرج إلى ذكر عداوته لمَن هذه حاله، فلهذا قال عقيب ذلك: فإنهم عدو لي. كأنه صوّر المسألة في نفسه على معنى إني فكّرت في أمري ونظرت في حالي، فرأيت أن عبادتي لها عبادة للشيطان العدوّ فاجتنبتها، وإنما قال: " فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي " بالإضافة إلى نفسه، ولم يقل: فإنهم عدو لهم، ليريهم بذلك أنها نصيحة ينصح بها نفسه، ليكون ذلك أدعى لهم إلى القبول لقوله، وأبعث إلى الاستماع لخطابه، ولو قال: فإنهم عدو لكم، لم يُفد هذه الفائدة، وكان القياس في الخطاب بالضمير أن يقول: فإنها عدو لي، أو فإنهن، لأنه راجع إلى الأصنام، والضمير في مَن لا يعلم أن يكون على هذه الصورة، ولكنه أورده على ضمير العقلاء لأمرين: أما أولاً فلأنهم لمّا زعموا أنها تستحقّ العبادة، وأنها يوجد من جهتها النفع ودفع الضرّ، صارت لذلك بمنزلة العقلاء، وأما ثانياً فلأنهم لمّا كانوا في الإنكار على سواءٍ، وجّه الخطاب إليهم على جهة تغليب حالهم على حالها. ولذلك نجد أن القرآن الكريم يراعي دقّة التعبير في كل موضع، ويضع كل كلمة في المكان المناسب بحسب ما يقتضيه السياق، ولا يمكن أن تسدّ أية كلمة مكانة كلمة أخرى فيه.

ثالثاً: إن استعمال اسم الإشارة لغير العاقل، كما أنه مشهور في كلام العرب، فهو مشهور كذلك في القرآن الكريم. فانظر إلى قوله تعالى على لسان موسى عليه السلام: " لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُورًا " (الإسراء: 102)، فـ" هَؤُلاء " هنا هي الآيات التسع التي آتاها الله تعالى موسى عليه السلام وأنزلها منزلة العقلاء؟ وتدبّر قوله عزّ وجلّ: " وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " (النور: 45). فقد عبّر هنا عن الحيّات وذوات الأربع بلفظ "مَن"، لأجل أن هذين القِسمين لمّا اندرجا في العموم أولاً، غلب مَن يعقل على غيره لشرفه، فصار الجميع كأنهم عقلاء فوقع التقسيم بلفظ "مَن" لذلك. وكذلك قوله تعالى: " إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً " (الإسراء: 36)، حيث عبّر عن السمع والبصر والفؤاد بـ (أولئك)، لأنها حواسّ لها إدراك وجعلها في هذه الآية مسؤولة، فهي حالة مَن يعقل. كذلك جاء في كلام العرب، منه قول جرير:

ذم المنازل بعد منزلة اللوى ----- والعيشَ بعد أولئك الأيام

والأكثر أن يُشار بـ"أولاء" إلى العاقل. وإجمالاً، يمكننا أن نذكر من الأسباب التي اندرجت فيها آلهة المشركين في صيغة العقلاء في القرآن الكريم، ما يلي:

الأول: أن أوثانهم رموز وتماثيل مَن يعبدونهم مِن العقلاء الأحياء أو الأموات، أو رموز وتماثيل مَن يتصوّرونهم كذلك .. فالمشركون اتّخذوا معبودين سوى الله عزّ وجلّ، وجعلوهم كذباً وزوراً آلهة يعبدونهم كعبادة الله تعالى، وهم لا يستحقّون شيئاً من عناصر العبادة، لأنهم مجرّدون من الصفات التي يمكن أن يتوهّمها عابدوهم فيهم.

الثاني: التغليب، كما إذا قلت: " رأيت مَن في الدار "، وأنت تريد الرجال والنساء والجمادات والبهائم، فإنك تقول: " رأيت مَن في الدار "، ولا تقول: " ما في الدار "، تغليباً لوصف العقلاء لشرفه، على البهائم والجمادات لخسّته، وتعمّ الصيغة الجميع لكن تعميمها ينشأ عن إرادة المستعمِل دون الوضع اللغوي. ولذلك إذا لم تطّلع على إرادته لا يحمل اللفظ إلا على عقلاء الدار خاصّة، ولا يثبت الحكم لما لا يعقل من الكائن في الدار، فيكون التعميم ليس بالوضع بل بإرادة المستعمِل.

والثالث: أن تتقدّم صيغة شاملة للقسمين، نحو: ما خلق الله من شيء، أو ما يعلمه الله، أو ما تقدّم من قوله تعالى: " وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " (النور: 45). حيث عبّر عن الحيّات وذوات الأربع بلفظ " مَن "، لأجل أن هذين القِسمين لما اندرجا في العموم أولاً، غلب مَن يعقل على غيره لشرفه، فصار الجميع كأنهم عقلاء فوقع التقسيم بلفظ " مَن " لذلك، وهذا القسم أيضاً مجاز لا بالوضع اللغوي، فإن التعبير عن الحيّات بخصوصها بلفظ " مَن " ليس بالوضع اللغوي.

رابعاً: يعقّب الباحث على قوله تعالى: " إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلَاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا " (الأنبياء: 98 - 99)، باستفهام غير مفهوم، حيث يقول: وهل أبلغ من " هَؤُلَاء آلِهَةً "؟ ولا ندري ما حُجّته فيما ادّعاه هنا؟ ففي الآية الكريمة خطاب من الله تعالى للمشركين الذين يعبدون من دونه آلهة أخرى، بأنهم وما يعبدونه من الأصنام والشياطين على اختلاف أجناسهم " حَصَبُ جَهَنَّمَ ". وقوله تعالى: " لَوْ كَانَ هَؤُلَاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا "، يعني أن هذه المعبودات المفتراة والآلهة المصطنعة التي عبدوها من دون الله، لو كانت آلهة حقّاً لما كانت وقوداً للنار، بل إن تسجيرها في النار شاهد بأنها مخلوقات من مخلوقات الله، فما يعبدها إلا كل جهول كفور. " وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ "، أي: العابدون والمعبودون جميعاً ماكثون في النار لا يخرجون. وهذا نذير للذين يعبدون غير الله، سواء كان المعبود صنماً، أو شيطاناً من الجن أو الإنس، كمن يعبدون الطواغيت والجبابرة من البشر. لا جرم أن هؤلاء – العقلاء وغير العقلاء - جميعاً مكبكبون في النار وبئس المستقرّ والمصير.

يتبع ..

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير