تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

: "والله أنزل من السماء ماء" (آية 65)، يعني: القرآن، وهو مثل ضربه الله عزّ وجلّ كما أن الماء حياة الأنفس، القرآن حياة لمن آمن به " (ينظر: الوجوه والنظائر في القرآن الكريم، لهارون بن موسى، تحقيق الدكتور حاتم الضامن، ص179).

ولكن هل هذه مقولة أهل السنة والجماعة؟ وإذا كان هذا القول معروفاً لدى المفسّرين، منذ القرن الثاني للهجرة النبوية المباركة – كما رأينا - فَلِمَ لم يأخذ به أحد منهم؟

لقد كان السلف – رحمهم الله - يقولون: القرآن كلام الله منه بدا بلا كيفية قولاً، وإليه يعود، وأنزله على رسوله وحياً، وصدقه المؤمنون على ذلك حقاً، وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة، ليس بمخلوق ككلام البرية. " وإنما قالوا: منه بدا، لأن الجهمية من المعتزلة وغيرهم كانوا يقولون إنه خلق الكلام في محل، فبدا الكلام من ذلك المحل. فقال السلف: منه بدا، أي هو المتكلم به، فمنه بدا، لا من بعض المخلوقات، كما قال تعالى: " تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ " (الزمر: 1)، " وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي " (السجدة: 13)، " قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ " (النحل: 102). ومعنى قولهم: وإليه يعود، يرفع من الصدور والمصاحف، فلا يبقى في الصدور منه آية ولا في المصاحف " (ينظر: شرح العقيدة الطحاوية، ص181). ولذلك نجدهم - رحمهم الله - قد فرقوا بين إنزال القرآن، وإنزال المطر، وإنزال الحديد والأنعام.

فإنزال القرآن إنزال من الله بلا كيفية. قال تعالى: " تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ " (غافر: 1 - 2). وقال تعالى: " تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ " (الزمر: 1). وقال تعالى: " تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " (فصلت: 2). وقال تعالى: " تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ " (فصلت: 43). وقال تعالى: " إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ " (الدخان: 3). وقال تعالى: " قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ " (القصص: 49). وقال تعالى: " وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ " (الأنعام: 114). وقال تعالى: " قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ " (النحل: 102). وإنزال المطر مقيّد بأنه منزل من السماء. قال تعالى: " وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا " (الفرقان: 48). والسماء: العلو. وقد جاء في مكان آخر أنه منزل من المزن، والمزن: السحاب. وفي مكان آخر أنه منزل من المعصرات. وإنزال الحديد والأنعام مطلق.

فكيف يشبّه هذا الإنزال بهذا الإنزال؟

يقول ابن القيم: " إن الله سبحانه ذكر الإنزال على ثلاث درجات: أحدها: إنزال مطلق، كقوله: " وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ "، فأطلق الإنزال ولم يذكر مبدأه، كقوله: " وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ ". الثانية: الإنزال من السماء، كقوله: " وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا ". الثالثة: إنزال منه، كقوله: "تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم"، وقوله: " تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ "، وقوله: " تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ "، وقوله: " قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ "، وقال: " وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ ". فأخبر أن القرآن منزل منه، والمطر منزل من السماء، والحديد والأنعام منزلان نزولاً مطلقاً، وبهذا يظهر تلبيس المعطلة والجهمية والمعتزلة حيث قالوا إن كون القرآن منزلاً لا يمنع أن يكون مخلوقاً، كالماء والحديد والأنعام، حتى غلا بعضهم فاحتجّ على كونه مخلوقاً بكونه منزلاً. والإنزال بمعنى الخلق. والله سبحانه فرق بين النزول منه، والنزول من السماء، فجعل القرآن منزلاً منه، والمطر منزلاً من السماء " (ينظر: الصواعق المرسلة، ص365).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير