وبهذا بان لنا الفرق بين إنزال القرآن، الذي بدا من الله لا من أحد من مخلوقاته – كالسماء – وبين إنزال الماء أو الحديد .. ولذلك محال أن يكون المقصود بالماء في آية النحل هو القرآن. وعدم إدراك الباحث للسبب الذي دعا القرآن العظيم أن يؤثر لفظة "يسمعون" على لفظة "يبصرون"، في قوله تعالى: " إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ "، لا يجيز له أن يؤوّل الآية على هواه.
فإن المتدبّر لكلام الله يجد أن الأدلة التي ساقها الله تعالى في الآية لا تحتاج مع الحسّ إلى كبير عمل بالقلب غير الانقياد إلى الحق، وترك العناد والجهل. فهو من سماع الأذن وما ينشأ عنه من الإجابة، استعمالاً للشيء في حقيقته ومجازه، فلم يختمها بـ"يبصرون" لئلا يظنّ أن ذلك من البصيرة، فيظن أنه يحتاج فيها إلى كبير فكر فيفوت ما أريد من الإشارة إلى شدة الوضوح.
يقول الخطيب الإسكافي: " إنما ذكر يسمعون توبيخاً لمن أنكر البعث واستبعد الحياة الثانية، فكأنه قيل له: إن ذلك قبل التدبّر مقرّر في أول العقل، حتى إن من يسمعه يعترف به، وهو أن الأرض الميتة يسقيها الله بماء السماء، فتعود حيّة بنباتها، فكذلك لا يستنكر أن يحيي الخليقة بعد موتها " (درّة التنزيل وغرّة التأويل، ص189).
ويقول الغرناطي: " إن وجه مناسبة قوله: " إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ " لقوله ": " وَاللّهُ أَنزَلَ مِنَ الْسَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا "، بناء ذلك على المتصل به من قوله: " وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ "، ثم قال: " وَاللّهُ أَنزَلَ مِنَ الْسَّمَاء مَاء "، فاتصل ذكر إنزال الكتاب بإنزال الماء، وما سماه رحمة إلا لرحمته عباده به، وماء السماء رحمة، وقد سمّاه بذلك، وبالمنزل من الكتاب يتذكّر اعتبار الرحمة بالماء المنزل من السماء، ولا يحتاج في ذلك إلى كبير تذكّر، بل التنبيه على إنزاله بالوارد في الكتاب مع مشاهدة منافعه كاف في الاعتبار، وفي إحياء الأرض بعد موتها أوضح شهادة لإحياء الموتى وإخراجهم لما وعدوا به، فالتحم الكلام، وتناسب النظم والمعنى. وإنما تحصل ثمرة الكتاب المنزل بسماعه، ولذلك نهى المعرضون عنه أتباعهم فقالوا: " لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ "، وقال في قسم من رحم بسماعه من الجن: " إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي "، وإنما يستجيب سامعه إذا كان غير معرض، فإذا لم يصغ إلى اعتبار ما أعقب به من إنزال السماء، فلهذا الالتحام أعقب الآية المذكورة بقوله: " إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ " (ملاك التأويل، ج2، ص746 - 747).
والله أعلم
ـ[أمين هشام]ــــــــ[28 - 07 - 2005, 12:30 م]ـ
يا شيخ لؤي ..
ما زدت على أن جمعت لنا علم الكلام المقيت .. مع كل الاحترام, فلم يقل احد منا بخلق القرآن ...
ويكفيني ويكفيك حديث النبي عليه الصلاة والسلام في الصحيح: "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم -والقرآن على رأسها-كالغيث الكثير"!.
وحبذا لو أنفقنا من جيوبنا بدل الميل على جيوب الصالحين السابقين!.
فإن الله سائل كل عبد عما استرعاه.
ـ[لؤي الطيبي]ــــــــ[29 - 07 - 2005, 09:38 م]ـ
الأخ الفاضل أبو عرفة ..
لقد بيّنتُ في مشاركتي قول العلماء في معنى الإنزال، وأنه جاء على ثلاثة وجوه، وأن عقيدة أهل السنة والجماعة لا تنسب أية كيفية لإنزال القرآن، ومن هنا قلت: إن من قال بأن معنى " الماء " في آية النحل: " وَاللّهُ أَنزَلَ مِنَ الْسَّمَاء مَاء "، هو القرآن، فقد نسب الكيفية إلى الإنزال، ومن أقرّ بهذا فقد قال بخلق القرآن، علم بذلك أم لم يعلم، شاء أم أبى، وهذا القول باطل بإجماع الأمّة، كما جاء في العقيدة الطحاوية، ولا أظن أنني بحاجة لأن أقول لك بأن جمهور المذاهب الأربعة يقرّون عقيدة الطحاوي، التي تلقّاها العلماء سلفاً وخلفاً بالقبول.
وقد جاء في بحثك أن " الماء وإنزاله وإحياء الأرض آية لقوم يبصرون، وإنما ذلك القرآن المقصود آية لقوم يسمعون "، فأي قرآن ذلك المقصود في الآية إن لم يكن هو الماء - على حدّ قولك؟ ثم إن استشهادك بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، بأن القرآن " كالغيث "، فهذا لا نجادل فيه، وهو كلام الصادق الأمين، وله شواهد لا تُحصى في الكتاب العزيز – كما أنك تفضّلت وبيّنت جزءاً منها في بحثك. ولكن هناك فرق شاسع بين قولي: القرآن هو " الغيث " (أو هو الماء كما جاء في الآية الكريمة)، وقولي: القرآن " كالغيث ".
هذا وإن أخطأت في المقصود من كلامك لضعف في فهمي المتواضع، فلك مني اعتذاري .. ولا أظن أن ما جاء في قولي هو من " علم الكلام المقيت "، كما زعمت، بل هو من مسلّمات العقيدة. والله الهادي إلى سواء السبيل.
¥