أي كأن السياق هكذا: مثنى أو ثلاث أو رباع.
الخطاب متوجه إلى الناس, ولذا جاء القرآن بواو التفصيل بين مثنى وثلاث ورباع الدال على التخيير, ومعنى أن ذلك أن بإمكان أي مسلم أن يتخذ لنفسه زوجتين أو ثلاث, أو أربع.
لو كانت الواو للجمع, سيكون عدد الزوجات المسموح به تسع (2 + 3 + 4 = 9) , وهذا غير جائز شرعا.
ـ[لؤي الطيبي]ــــــــ[19 - 08 - 2005, 05:30 م]ـ
أشكر أخي الدكتور أبا طالب على هذه الملاحظات القيّمة .. وليسمح لي حفظه الله بالتنبيه إلى أمور:
إذ لو أنّ القرآن الكريم استعمل في آية النساء الأعداد الأصول (اثنان وثلاثة وأربعة وخمسة وستة وسبعة)، أي لو أنّه قال: (اثنتين وثلاثاً وأربعاً)، لدلّ ذلك على الجمع، وجاز الجمع بين تسع زوجات في وقت واحد، لأنّ هذه الأعداد تقبل الجمع، قال تعالى: (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) [الأعراف: 142]، وقال عزّ وجلّ: (فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ) [البقرة: 196].
وقد بيّنتم – حفظكم الله – في تذوّقكم الفطن ما تحمل لفظة (كاملة) في هذا السياق من حلاوة، وكأنّ هذه العبارة تنادي بلسانها أنْ لا تحسبوا هذه العشرة هيّنة. فالحكمة من استعمال القرآن الكريم لأعداد الأصول في هاتين الآيتين، وفي غيرهما واضح وجليّ.
ولكن لماذا لَمْ يقل في آية النساء: "اثنتين وثَلاثاً وأربعاً"؟ بل عَدَلَ عن هذه الأعداد إلى صيغ جديدة، فقال: (مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ)؟
إنّ القرآن الكريم دقيق في التعبير، وهذه الصيغ الجديدة لا تقبل الجمع أبداً، فلا يجوز أنْ تقول صُم ثُلاثاً في الحجّ، وسُباعاً إذا رجعت، فتلك عشرة أيام كاملة. وإنّما تقول: صُم ثَلاثة أيام في الحجّ وسبعةً إذا رجعت، فتلك عشرة أيام كاملة.
والدليل على أنّ هذه الصيغ العددية الجديدة لا تقبل الجمع، وإنّما يُراد بها التنويع، آيات القرآن العظيم، قال تعالى في آية أخرى أوردت هذه الصيغ العددية نفسها: (الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء) [فاطر: 1]. فالـ (الواو) في هذه الآية ليست بمعنى (أو)، فهي تخبر أنّ الله تعالى خلق الملائكة أولي أجنحة، وأنّهم ليسوا سواءً في عدد الأجنحة، فمنهم أولو أجنحة مثنى، ومنهم أولو أجنحة ثُلاث، ومنهم أولو أجنحة رُباع، ومنهم أولو أجنحة أكثر من ذلك، والله سبحانه يزيد في الخلق ما يشاء. ولو أنّه قال في الآية: (أولي أجنحة اثنتين وثَلاث وأربع)، لكان لكلّ مَلَك منهم تسعة أجنحة، لأنّ هذه أعداد أصول، والواو لمطلق الجمع.
وكذلك هو الحال في آية النساء، إذ لا يصحّ أنْ تكون (الواو) بمعنى (أو)، ولا يمكن أنْ يكون المعنى: انكحوا ما طاب لكم من النساء: مثنى أو ثُلاث أو رُباع. لأنّ (أو) تدلّ على التخيير الملزم! فيكون الحكم تخييراً للرجال بين أنْ ينكحوا مثنى من النساء أو ثُلاثاً أو رُباعاً. لكن مَن اختار للزواج مثنى من النساء لا يجوز له أنْ يتزوّج ثُلاثاً بعد ذلك! وَمَن اختار للزواج ثُلاثاً لا يجوز له أنْ يتزوّج رُباعاً بعد ذلك، فهو إمّا أنْ يتزوّج مثنى ويتوقّف عند ذلك، وإما أنْ يتزوّج ثُلاثاً ويتوقّف عند ذلك، وإما أنْ يتزوّج رُباعاً!!!
والقرآن لا يقول بذلك، فهو يبيح للرجل أنْ يتزوّج مثنى، ويبيح له أنْ ينتقل بعد ذلك إلى رُباع. ولذلك نجد أنّ ابن هشام قد نقل من كلام أبي طاهر الأصفهاني في كتابه "الرسالة المعربة عن شرف الإعراب": القول في آية النساء بأنّ (الواو) بمعنى (أو) عجز عن درك الحقّ.
والقول الراجح، الذي يتّفق مع معنى الآية، ومع رخصة تعدّد الزوجات، ومع معاني الأعداد الثلاثة: مثنى وثُلاث ورُباع، هو ما ذهب إليه الزمخشري ومحقّقون آخرون من البيانيّين، قالوا: ضُمّنت (الواو) معنى (أو)، فدلّت على معنى (أو)، ثمّ دلّت على معناها.
((تعريف: التضمين قد يكون في الأفعال، وقد يكون في الحروف، بحيث يُضمَّن الفعل المذكور معنى الفعل المقدَّر، ويدلّ على الفعلين معاً، ويُضمَّن الحرف المذكور معنى الحرف المقدَّر، ويدلّ على الحرفين معاً. فهو: إشراب كلمة (أو حرف) معنى أخرى (آخر)، بحيث تؤدّي (يؤدّي) المعنيين، وفائدته: أنْ يؤدّي حرف (أو كلمة) مؤدَّى حرفين (أو كلمتين)، أي أنّه جملتان في جملة واحدة.))
نفهم الآية على معنى (أو) أولاً: فانكحوا ما طاب لكم من النساء: مثنى أو ثُلاث أو رُباع. فالآية تبيح للرجال تعدّد الزوجات، وتخيّر الواحد منهم في أيّ عدد أراد، بشرط العدل، فهو إمّا أنْ يتزوّج بواحدة، وإمّا أنْ يتزوّج باثنتين، وإمّا أنْ يتزوّج بثلاث نساء، وإمّا أنْ يتزوّج بأربع نساء. ومَن تزوّج مثنى من النساء يُباح له التزوّج بثُلاث، ومن تزوّج بثُلاثٍ منهنّ يُباح له الزيادة والتزوّج برُباع. وهذا هو معنى التخيير بحرف (أو): مثنى، أو ثُلاث، أو رُباع.
وعند تطبيق الرجال للرخصة التعددية في الآية، بحسب قدراتهم وظروفهم وأحوالهم ماذا تكون النتيجة في الأمّة؟ هنا يأتي الدور المعجز لحرف (الواو) في الآية، لتؤدّي معناها الأساسي. فالآية تتحدّث عن أصناف الرجال بالنسبة للتعدّد، وتبيّن أنّهم ثلاثة أصناف، معطوف بعضها على بعض بحرف (الواو). فهناك مَن يتزوّجون مثنى من النساء، (و) هناك آخرون يتزوّجون ثَلاثاً من النساء، (و) هناك آخرون يتزوّجون أربعاً من النساء. ولا يجوز الزيادة عن ذلك العدد في وقت واحد.
هذا والله تعالى أعلم ..
¥