وكشاهد على النوع الثاني قول أبي تمام في الشيب:
شعلةٌ في المفارق استودعتني
في صميم الفؤاد ثكلا صميما
يستثير الهموم ما اكتن منها
صُعُدا وهي تستثير الهموما
لا زلنا نسبح في بلاغة الآية الشريفة:
" يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب " - الحج:73
ـ[د. حجي إبراهيم الزويد]ــــــــ[02 - 10 - 2005, 09:35 م]ـ
" يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب " - الحج:73
من ضمن الفوائد البلاغية التي يستفيدها المتأمل في هذه الآية الكريمة هي أنها من أقوى دلائل (المذهب الكلامي) الذي يعتبر أحد فنون علم البديع.
المقصود بالمذهب الكلامي هو أن يأتي المتكلم بحجة عقلية قاطعة لإثبات صحة ما يدعو إليه وإبطال دعوى خصمه على طريقة أهل الكلام, وبلاغة الأسلوب في هذه الحالة وقوة تأثيره يتناسب مع مدى قرب هذه البراهين من المنطق والعقل.
دعونا نتأمل المذهب الكلامي في هذه الآية الشريفة:
ابتدأ سبحانه وتعالى خطابه إلى الناس بصفة عامة والمشركين بصفة خاصة ببيان عجز تلك الأصنام المعبودة عن خلق هذه الحشرة الصغيرة حتى مع اجتماعها وتساندها وتضافرها.
ثم تحداهم بما هو أسهل من الخلق, وهو عجز تلك الأصنام عن مقاومة الذباب, حيث يسلبها ما وضع عليها من عسل ونحوه- حيث دأب المشركون على إغراقها بالعسل والزعفران والمسك – وهي لا تملك المقاومة, أو استرداد ما سلب منها, وفي هذا عرض لمشهد هزيمة تلك الأوثان أمام هذا الكائن الصغير الحقير.
هذا التدرج القرآني في العرض يرسم حجة عقلية قاطعة عن ضعف تلك الأوثان, وتفاهة عقول من عبدوها.
إكمالا للفائدة أود الإشارة إلى المذهب الكلامي كفن بلاغي.
أول من أشار إلى هذا الفن هو الجاحظ, من خلال إعطاء بعض الأمثلة عليه, وقد ذكره ابن المعتز في كتابه (البديع) فقال: " وهو مذهب سماه عمرو بن الجاحظ المذهب الكلامي .... "
القرآن الكريم مليء بشواهد على المذهب الكلامي, أذكر بعضا منها.
" لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا " – الأنبياء: 22
قد أشرت إلى ذلك فيما تقدم.
" قال من يحي العظام وهي رميم. قل يحييها الذي خلقها أول مرة وهو بكل خلق عليم " - يس: 78 - 79
تشير هذه الآية إلى دليل عقلي وهو أن الذي خلق الأشياء أول مرة يمتلك القدرة على إعادة خلقها بعد أن بليت وصارت رميما, حيث إن إعادة الخلق أسهل من الخلق الأول كمنطق عقلي.
" وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه " – الروم: 27
في هذه الآية حجة عقلية تتلخص في أن الله الذي خلق الأشياء لا من شيء كان قبلها, قادر على إعادة خلقها, فالإعادة أهون من البدء كمنطق عقلي.
" وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماء والأرض وليكون من الموقنين. فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين. فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين. فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون. إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين " – الأنعام 75 - 79
المذهب الكلامي في هذه الآيات هو عرضها لأدلة التوحيد, من خلال رسمها لهذه الحجج العقلية التي أراد بها إبراهيم أن يوصل الناس إلى أصل التوحيد من خلال الاستدلال العقلي القطعي.
ابتدأ السياق القرآني بـ " وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماء والأرض " للإشارة الإجمالية إلى حكومة الله المطلقة على الوجود, كل الوجود, ثم شرع في ذكر التفاصيل. تشير هذه الآيات الشريفة إلى إن أفول الشمس والكواكب دليل على عدم ألوهيتها, ولذا أعلن نبي الله إبراهيم قراره النهائي لقومه ببطلان عبادة هذه المعبودات التي يعبدونها من دون الله, ونفي صفات الألوهية عنها, فهي تخضع لقوانين الطبيعة من خلال ظهورها فنرة وأفولها فنرة أخرى, وأنها بأفولها تنقطع صلتها بالكائنات, وهذا مناف لكونها آلهة, بالإضافة أن في تحركها دلالة على حدوثها.
وكما يقع المذهب الكلامي في النثر, فإنه يقع في الشعر, ومن شواهد ذلك:
قول الكميت في الاحتجاج على أحقية آل البيت في الخلافة والرد على بني أمية:
وقالوا ورثناها أبانا وأمنا
وما وورثتهم ذاك أم ولا أب
فإن هي تصلح لحي سواهم
فإن ذوي القربى أحق و أقرب
وكقول النابغة الذبياني للنعمان معتذرا عندما انصرف عنه ومدح آل جفنة من الغساسنة:
حلفتُ فلم أترك لنفسك ريبة
وليس وراء الله للمرء مذهب
لئن كنت قد بُلغت عني خيانة
لمبلغك الواشي أغش و أكذب
و لكنني كنت امرأ لي جانب
من الأرض فيه مستراد ومذهب
ملوك وإخوان إذا ما أتيتهم
أحكّم في أموالهم و أقرَّب
كفعلك في قوم أراك اصطنعتهم
فلم ترهم في مدحهم لك أذنبوا
يورد النابغة حججا منطقية كي يقنع النعمان بصحة دعواه, فيقول له: أنت أيها النعمان مستاء مني لأني مدحت آل جفنة الذين أحسنوا إلي. إنك أحسنت إلى أناس فمدحوك, وأنا أحسنت إلى أناس فمدحتهم, فكما ذلك لا يعد ذنبا, فكذلك مدحي للذين أحسنوا إلي لا يعد ذنبا.
لا زلنا نسبح في بلاغة الآية الشريفة:
" يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب " - الحج:73
¥