وإليه أشار الكرماني، رحمه الله، بقوله: "إِذَا قُلْنَا إِنَّ تَقْدِيم الْخَبَر عَلَى الْمُبْتَدَأ يُفِيد الْقَصْر فَفِي قَوْله " وَإِنَّمَا لِكُلِّ اِمْرِئٍ مَا نَوَى " نَوْعَانِ مِنْ الْحَصْر: قَصْر الْمُسْنَد عَلَى الْمُسْنَد إِلَيْهِ إِذْ الْمُرَاد إِنَّمَا لِكُلِّ اِمْرِئٍ مَا نَوَاهُ، وَالتَّقْدِيم الْمَذْكُور". اهـ
"فتح الباري"، (1/ 21).
قوله: (فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ......... ):
بيان بعد إجمال بالفاء المفرعة.
وقوله: (فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ):
إظهار في موضع الإضمار إجلالا للمذكور وتبركا بجريان ذكره على اللسان، فالقياس: فمن كانت هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إليهما.
وإعادة لفظ المبتدأ في جملة الخبر، أو الشرط في الجزاء، يدل على المبالغة إما في: التعظيم أو التحقير، كما في:
قوله تعالى: (الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ)، فتكرار المبتدأ في جملة الخبر مشعر بتعظيم شأنه.
بخلاف قولك: زيد ما زيد!!!، فإنها تحتمل المبالغة في التعظيم، أو التحقير، و: "بساط الحال" هو الذي يحدد المعنى المقصود، وإلى ذلك أشار ابن خلدون، رحمه الله، بقوله:
"البيان والبلاغة في اللسان المضري أكثر وأعرق لأن الألفاظ بأعيانها دالة على المعاني بأعيانها. ويبقى ما تقتضيه الأحوال ويسمى بساط الحال محتاجاً إلى ما يدل عليه. وكل معنى لا بد وأن تكتنفه أحوال تخصه فيجب أن تعتبر تلك الأحوال في تأدية المقصود لأنها صفاته وتلك الأحوال في جميع الألسن أكثر ما يدل عليها بألفاظ تخصها بالوضع. وأما في اللسان العربي فإنما يدل عليها بأحوال وكيفيات في تراكيب الألفاظ وتأليفها من تقديم أو تأخير أو حذف أو حركة إعراب. وقد يدل عليها بالحروف غير المستقلة. ولذلك تفاوتت طبقات الكلام في اللسان العربي بحسب تفاوت الدلالة على تلك الكيفيات كما قدمناه فكان الكلام العربي لذلك أوجز وأقل ألفاظاً وعبارة من جميع الألسن. وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " أوتيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصاراً ". واعتبر ذلك بما يحكى عن عيسى بن عمر وقد قال له بعض النحاة: " إني أجد في كلام العرب تكراراً في قولهم: زيد قائم وإن زيداً قائم وإن زيداً لقائم والمعنى واحد. فقال له: إن معانيها مختلفة فالأول: لإفادة الخالي الذهن من قيام زيد والثاني: لمن سمعه فتردد فيه والثالث: لمن عرف بالإصرار على إنكاره فاختلفت الدلالة باختلاف الأحوال. وما زالت هذه البلاغة والبيان ديدن العرب ومذهبهم لهذا العهد ". اهـ بتصرف يسير من تاريخ ابن خلدون.
فالحركة في لغة العرب، وهي التي امتازت عن بقية اللغات بـ: "الإعراب"، لها دلالتها، فتنوين "سيبويه" يدل على معنى لا يدل عليه الاسم المبني على الكسر، فالأول: عام، والثاني: خاص بصاحب "الكتاب"، والقطع إلى الرفع أو النصب في لغة العرب باب واسع، وهو يفيد: المدح أو الذم، وإنما يعرف المراد بـ: "بساط الحال"، أيضا، فلا يمكن فهم مراد المتكلم بمعزل عنه، فهو بمنزلة القرينة السياقية التي ترجح معنى على بقية المعاني، كلفظ: "مع"، على سبيل المثال، فهو يفيد مطلق المصاحبة التي تتنوع إلى:
مصاحبة مع اختلاط:
كقولك: مزجت اللبن مع الماء.
أو: مصاحبة لا يلزم منها اختلاط:
كقولك: فلانة مع فلان، إن كانت امرأته، وإن فرقت بينهم الديار وتناءت الأقطار.
أو: مصاحبة علم:
كما في قوله تعالى: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)، بدليل: (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا)، في أول الآية، و: (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)، في آخر الآية، فافتتحها بالعلم واختتمها به.
أو: مصاحبة نصرة وتأييد:
لأفراد:
كما في قوله تعالى: (قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)، و: (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا).
أو لأوصاف:
¥