تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وحديث ابن عباس، رضي الله عنهما، مرفوعا: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَعَنْ كُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ)، و "أل" في: "الطير" جنسية تفيد استغراق ما دخلت عليه بدليل مقابلتها الجمع المحلى بـ: "أل" في "السباع"، فدل المتقدم على المتأخر، فضلا عن كون "من" الداخلة عليه لبيان: "الجنس" ففيها، أيضا، معنى العموم، فتقدير الكلام: ونهى عن كل ذي مخلب من جنس الطيور، في مقابل نهيه عن كل ذي ناب من جنس السباع.

الشاهد أن هذه النصوص قد أثبتت محرمات أخرى، فدل ذلك على أن الحصر في الآية غير حقيقي، وإنما هو أيضا: قصر قلب إضافي، ليقلب اعتقاد القوم استحلال المذكورات، فتقدير الكلام: لا حرام إلا ما أحللتموه، بغض النظر عن بقية المحرمات، بمنزلة من قيل له: لا تأكل اليوم حلاوة، فرد متحديا: لا آكل اليوم إلا حلاوة، فلا يقصد بقوله هذا اقتصاره عليها، وإنما يقصد قلب اعتقاد المتكلم بفعل نقيضه، وإلى ذلك أشار الزركشي، رحمه الله، في "البرهان" بقوله:

"ومن الفوائد أيضا، (أي: من فوائد معرفة أسباب النزول): دفع توهم الحصر. قال الشافعي ما معناه: في معنى قوله تعالى: (قل لا أجد فيما أوحى إلى محرما ....... ) الآية، إن الكفار لما حرموا ما أحل الله وأحلوا ما حرم الله وكانوا على المضادة والمحادة جاءت الآية مناقضة لغرضهم فكأنه قال لا حلال إلا ما حرمتموه ولا حرام إلا ما أحللتموه نازلا منزلة من يقول: لا تأكل اليوم حلاوة فتقول: لا آكل اليوم إلا الحلاوة والغرض المضادة لا النفي والإثبات على الحقيقة فكأنه قال لا حرام إلا ما حللتموه من الميتة والذم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به ولم يقصد حل ما وراءه إذ القصد إثبات التحريم لا إثبات الحل قال إمام الحرمين، (أبو المعالي الجويني رحمه الله): وهذا في غاية الحسن ولولا سبق الشافعي إلى ذلك لما كنا نستجير مخالفة مالك في حصر المحرمات فيما ذكرته الآية". اهـ بتصرف يسير من "البرهان"، (1/ 23، 24).

وقد يقال من جهة ثانية بأن صيغة الفعل الماضي: "أوحي" ترفع الإشكال ابتداء، بناء على أن آية الأنعام الحاصرة: مكية، فيكون المعنى: قل لا أجد فيما أوحي إلي حتى الآن محرما ....... ، ولا يمنع ذلك ورود التحريم على أعيان أخرى، لاسيما إذا ورد في آية مدنية متأخرة كآية المائدة، فتكون الصورة: زيادة في النص، وهي نسخ باصطلاح المتقدمين الذين يطلقون النسخ على التخصيص والتقييد والزيادة ......... إلخ، وليست نسخا لتحريم الأعيان الواردة في آية الأنعام عند المتأخرين، لأنه لم يتعرض له بإبطال، وإنما زاد عليه تحريم أعيان أخرى.

وقد يقال من جهة ثالثة بأن آية الأنعام قد دلت على إباحة ما سوى المحصور بدلالة: المفهوم المستفاد من الحصر، فقصر التحريم على أشياء بعينها يدل على إباحة ما سواها، بينما آية المائدة والحديث يدلان على تحريم غيرها بدلالة: المنطوق الصريح، والمنطوق يقدم على المفهوم عند حصول التعارض بينهما لأن دلالته أقوى، فهو بمنزلة النص في محل النزاع.

ومثلها القصر في قوله تعالى: (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ)، فهو قصر موصوف على صفة، إذ قصر المسيح عليه الصلاة والسلام، مرجع ضمير الغائب: "هو" على صفة العبودية التي دل عليها لفظ: "عبد"، ولما كان الرد في هذا الموضع على من ضرب المثل بقوله: (أَآَلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ)، جاء الرد نصا في محل النزاع، فأثبت للمسيح، عليه الصلاة والسلام، نقيض الألوهية: العبودية، بأقوى أساليب الحصر: النفي والاستثناء، ولا يعني ذلك قصر صفات المسيح عليه الصلاة والسلام على صفة العبودية فقط، بل له من الصفات غيرها، وإن كانت العبودية الخاصة: عبودية الانقياد والمحبة، أشرف ما وصف به الرسل عليهم الصلاة والسلام، وقد وصف الله، عز وجل، نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالعبودية في أشرف المقامات، كما في:

قوله تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير