ولعل توظيف هذا اللون من البلاغة على هذا النسق الإعجازي يكون بمثابة المنبه القوي للعلماء - على اختلاف زوايا نظرهم إلى النص القرآني – بأن بحوثهم لابد وأن تبدأ أولاً من النص القرآني ثم تنتهي به. لابد لا أن تبدأ تلك البحوث بالتقريرات والتقعيدات ثم محاولة قياس النص في ضوء هذه التقريرات. فالذي يتضح جليا أن لهذا النص الجليل نمط من التوظيف غير ثابت، نمط متحرر بلاغيا وتركيبيا وسياقيا ودلاليا. نمط توظيف خاص به، وهذا أحد أوجه إعجاز هذا النص العظيم.
و" التقديم والتأخير" المعنوي تناوله العلماء بالتحليل من خلال سياقات النص القرآني، وكانوا على وتيرة واحدة إذ يقررون أن " الألفاظ تابعة للمعاني، والمعاني لها في التقديم أحوال خمسة هي: التقدم بالشرف، والتقدم بالذات، وتقدم العلة على معلولها، والتقدم بالمكان، والتقدم بالزمان " (). أي انه يؤكد على فكرة تبعية الألفاظ للمعاني، فما تقدم من الكلام تابع في تقدمه في اللسان على حسب ما يدور من معان في الذهن والعقل. وابن الزملكاني في كتابه " المُجيد في إعجاز القرآن المَجيد " () يدور مع الفكرة ذاتها، وكذلك فعل ابن القيم في كتابه " بدائع الفوائد " ()، والعلوي في كتابه " الطراز " ().
هذا وقد جاء اتفاق البلاغيين على تحديد ثلاثة ألوان للتقديم والتأخير المعنوي مستنبطة من سياقات التوظيف في النص القرآني. هذه الألوان هي:
1 – ما قُدِّم والمعنى عليه، أي أن هذا التقديم مقصود لأغراض معينة.
2 – ما قُدِّم والمراد به التأخير، ولهذا أشكل، فلما اتضح ما فيه من تقديم أو تأخير زال إشكاله.
3 – ما قُدِّم في آية وأُخِّرَ في أخرى.
وهذه الألوان حظيت من البلاغيين بالعناية، ولهذا نفصل القول فيها كلٌّ على حدة:
أولاً: ما قُدِّمَ والمعنى عليه
يقصد بهذا اللون أن الكلمة الموظفة في سياق النص القرآني إذا قُدّمت فإنما يكون ذلك لغرض مقصود ومبتغى من وراء هذا التقديم. ولعل أولى الإشارات المفصَّلة التي وردت إلينا في بيان أسباب هذا " التقديم والتأخير المعنوي " كانت في كتاب " الأمالي " للزجاجي إذ يقول: " اعلم أن للأشياء مراتب في التقديم والتأخير، فمنها ما يكون إما بالتفاضل، أو بالاستحقاق، أو بالطبع، أو على حسب ما يوجبه المعقول، فإذا سبق معنى من المعاني على الخلد والفكر بأحد هذه الأسباب أو بأكثرها، سبق اللفظ الدال على ذلك المعنى السابق، وكان ترتب الألفاظ بحسب ذلك " (). فقد ذكر الزجاجي هنا أسبابا أربعة للتقديم هي:
1 - التقديم بالتفاضل، أو الفضل والشرف.
2 - التقديم بالاستحقاق، أي يكون الأصل في هذا اللفظ هو التقديم.
3 - التقديم بالطبع أو الذات.
4 - التقديم بحسب ما يقتضيه العقل. ولعل هذا السبب الرابع يمكن رده إلى السبب الثاني أي " التقديم بالاستحقاق " لكون العقل يحكم للمتقدم بما يستحقه من التقديم.
والسهيلي يأخذ من قول الزجاجي ويضيف إليه، مفصِّلاَ كل سبب، ومستشهدا بالآيات القرآنية. يقول السهيلي: " ما تقدم من الكلام فتقديمه في اللسان على حسب تقديم المعاني في الجنان، والمعاني تتقدم بأحد خمسة أشياء: إما بالزمان، وإما بالطبع، وإما بالرتبة، وإما بالسبب، وإما بالفضل والكمال، فإذا سبق معنى من المعاني على الخلد والفكر بأحد هذه الأسباب أو بأكثرها، سبق اللفظ الدال على ذلك المعنى السابق، وكان ترتب الألفاظ بحسب ذلك " (). فهو هنا يورد أسبابا خمسة لهذا اللون من التقديم هي:
1 - التقديم بالزمان.
2 - التقديم بالطبع.
3 - التقديم بالرتبة = التقديم بالاستحقاق.
4 - التقديم بالسبب.
5 - التقديم بالفضل والكمال.
ثم يعود الإمام السهيلي ويذكر سببا سادسا للتقديم والتأخير المعنوي هو: (خفة اللفظ) مثل قولك: (ربيعة ومضر). يقول: " كان تقديم (مضر) أولى من جهة الفضل، ولكنهم آثروا الخفة، لأنك لو قدمت (مضر) في اللفظ كثرت الحركات وتوالت، فلما أخرت وقف عليها بالسكون " (). فهو بذلك كان مجددا بذكره ثلاثة أسباب لم يذكرها الزجاجي هي:
1 - التقدم بالزمان.
2 - التقدم بالسبب.
3 - التقدم للخفة اللفظية.
¥