تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ويحمد للسهيلي روعة التدليل بالآيات القرآنية لكل سبب من هذه الأسباب، وكذلك جمال تحليله. ومن أمثلة ذلك تحليله لسبب التقديم في قوله تعالى: ? وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ? سورة آل عمران آية رقم (43) إذ حلل هنا سبب تقديم (السجود) على (الركوع) فيجعله من باب " التقديم للفضل والشرف " لأن السجود أفضل. لكنه لا يترك المسألة هكذا دون تفصيل، بل يسأل سؤالا يجيب عنه في طلاقة وتمكن يحسبان له. يقول: " إن قيل: فالركوع قبل السجود بالزمان وبالطبع والعادة لأنه انتقال من علو إلى انخفاض، والعلو بالطبع قبل الانخفاض، فهلاَّ قدَّم في الذكر على السجود لهاتين العلتين؟! فالجواب أن يقال لهذا السائل: انتبه لمعنى هذه الآية من قوله (اركعي مع الراكعين)، ولم يقل: (اسجدي مع الساجدين)؛ فإنما عبَّر بالسجود عن الصلاة كلها، وأراد صلاتها في بيتها، لأن صلاة المرأة في بيتها أفضل لها من صلاتها مع قومها. ثم قال لها: (اركعي مع الراكعين) أي: صلِّي مع المصلين في (بيت المقدس)، ولم يرد أيضا الركوع وحده دون سائر أجزاء الصلاة، ولكنه عبَّر بالركوع عن الصلاة كلها كما تقول: (ركعت ركعتين) و (ركعت أربع ركعات) إنما تريد الصلاة لا الركوع بمجرده؛ فصارت الآية متضمنة لصلاتين؛ صلاتها وحدها، عبَّر عنها بالسجود، لأن السجود أفضل حالات العبد، وكذلك صلاة المرأة في بيتها أفضل لها، ثم صلاتها في المسجد عبَّر عنها بالركوع، لأنه في الفضل دون السجود، وكذلك صلاتها مع المصلين دون صلاتها في بيتها ومحرابها، وهذا نظم بديع، وفقه دقيق". () هكذا كان التحليل الدقيق لموضع التقديم في هذه الآية، وهذا يدل على ذوق تأملي راق للإمام السهيلي.

وابن الأثير يتناول المسألة عرضا في كتابه " المثل السائر " إذ يجعل " التقديم والتأخير " على ضربين هما ():

الأول: يختص بدلالة الألفاظ على المعاني، ولو أخر المقدم أو قدم المؤخر لتغير المعنى، وهذا هو التقديم والتأخير الرتبي.

والثاني: يختص بدرجة التقدم في الذكر لاختصاصه بما يوجب له ذلك، ولو أخر لما تغير المعنى. وهو يقصد هنا التقديم والتأخير المعنوي.

ويشير ابن الأثير إلى قيمة هذا اللون من " التقديم والتأخير " بقوله: " إنه مما لا يحصره حدّ، ولا ينتهي إليه شرح " ().ثم يذكر أسبابا خمسة لها اللون هي ():

1 - التقديم بالسبب.

2 - تقديم الأكثر على الأقل.

3 - التقديم للدلالة على قدرة الخالق.

4 - التقديم لمناسبة المعنى لسياق الآيات السابقة.

5 - التقديم للاهتمام.

ونلاحظ أن ابن الأثير قد تفرد بذكر أربعة أسباب لم يذكرها من سبقوه؛ إذ تفرد بذكر:

* التقديم للدلالة على قدرة الخالق.

* والتقديم للأكثر على الأقل.

* والتقديم للمناسبة.

* والتقديم للاهتمام.

وإن كان يمكن رد (تقديم الأكثر على الأقل) إلى كونه من باب (التقديم بالاستحقاق) لأن الأكثر أولى بالتقديم من الأقل. ويعتمد ابن الأثير تحليل الآيات القرآنية سبيلا للتدليل على هذه الأسباب، لكنه يكتفي بذكر آية واحدة تدليلا لكل سبب.

وأمكننا الوقوف على جماليات التحليل عند ابن الأثير من خلال تعرضه بالتحليل لقوله تعالى:? وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ? سورة يونس آية رقم (61) بقوله:" إنما قدم الأرض في الذكر على السماء، ومن حقها التأخير، لأنه لما ذكر شهادته على شؤون أهل الأرض وأحوالهم، ووصل ذلك بقوله: (وما يعزب) لاءم بينهما؛ ليلي المعنى المعنى. فإن قيل: قد جاء تقديم الأرض على السماء في الذكر في مواضع كثيرة من القرآن. قلنا: إذا جاءت مقدمة في الذكر فلابد لتقديمها من سبب اقتضاه، وإن خفي ذلك السبب، وقد يستنبطه بعض العلماء دون بعض " (). فهو هنا يؤكد على أن تقديم (السماء) على (الأرض) هو الأصل لأنه تقديم بالفضل والشرف، لكن العدول عن ذلك هنا كان مقصودا لمناسبة سياق الآية كما وضح. كما أنه في ختام تحليله يؤكد على تفرد النص القرآني بهذا التوظيف، وخفاء أسراره على الكثيرين، فقد

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير