يصل الفهم الذوقي عالم، ويخفق آخرون.
أما ابن الزملكاني فيتناول المسألة نفسها من خلال السبيل ذاته إذ يقول: " لما كانت الألفاظ تابعة للمعاني، والمعاني تتقدم باعتبارات خمسة: الأول: تقدم العلة والسببية على المعلول والسبب. والثاني: التقدم بالذات، كالواحد مع الاثنين. والثالث: التقدم بالشرف كالأنبياء. والرابع: بالرتبة؛ كالإمام، والجنس الأعلى. والخامس: بالزمان؛ كـ (وعادا وثمود) () " (). فهو هنا يورد خمسة أسباب للتقديم والتأخير المعنوي، هي في مجملها تكرار لما سبقه إليه السابقون من قبل.
أما ابن النقيب (ت 698 هـ) فيرى أن للتقديم والتأخير أقسام أربع هي: " إما أن يكون موجبا لزيادة في المعنى، أو لا يكون كذلك. وإما أن يكون ما قدم الأولى به التقديم، أو الأولى به التأخير، أو يتكافأ الأمران فيه " (). ثم يفصل القول في كل قسم على حدة. وما يهمنا هنا في هذا المقام هو القسم الثاني (أن يكون ما قدم الأولى به التقديم، أو الأولى به التأخير) وقد جعل له ابن النقيب أسبابا مؤدية، وأمورا موجبة هي ():
1 - كون التقديم أدل على قدرة الخالق من التأخير.
2 - أن يكون للمتقدم تأثير في وجود المتأخر = (العلة والسببية).
3 - أن يكون المتقدم أكثر وجودا = (الأكثر على الأقل).
4 - أن يكون المتقدم في الوجود بالذات.
5 - أن يكون متقدما لأجل كلام تقدم = (مناسبة السياق المتقدم).
6 - أن يكون التقديم للاهتمام.
7 - أن يكون التقديم رعاية للسجع (الفاصلة).
والسبب الأخير هو الوحيد الذي تفرد ابن النقيب بذكره. وهذه إشارة جميلة، ذات دلالة بليغة في مسألة " التقديم والتأخير المعنوي ". لكن يلاحظ أن تناول ابن النقيب للآيات القرآنية بالتحليل، ولبيان مواضع التقديم فيها كان بسيطا غير مسهب. يقول في تعليقه على قوله تعالى: ? ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ? سورة الحاقة آية رقم (31):" لو قال: (ثم صلوه الجحيم) لأفاد المعنى، لكن كان يفوت السجع، فلذلك كان الأحسن تقديم الجحيم " (). وهذه إشارة على وجازتها تحمل دلالات رائعة في بلاغة التوظيف القرآني للفواصل في ثنايا الآيات والسور القرآنية.
والإمام الطيبي يدلي في المسألة برأيه، إذ تناولها في سياق تناوله " للتقديم الواقع بين المفعولات " ويجعل لهذا اللون من " التقديم والتأخير المعنوي " أسبابا هي ():
1 - أن يكون التقديم للاهتمام.
2 - أن يكون التقديم للفضل والشرف.
3 - أن يكون التقديم للاحتياط.
4 - أن يكون التقديم رعاية للفاصلة.
5 - أن يكون التقديم لمراعاة النظم.
6 - أن يكون التقديم للكثرة.
7 - أن يكون التقديم للسبب على المسبب.
ويلاحظ تفرد الإمام الطيبي بذكر سببين لم يذكرهما من سَبقه هما:
الأول: أن يكون التقديم للاحتياط.
والثاني: أن يكون التقديم لمراعاة النظم.
يقول الطيبي:"ربما يكون التقديم للاحتياط نحو قوله تعالى: ? وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ? () فلو أخر (من آل) لأوهم أنه من صلة (يكتم) فلم يفهم أن الرجل من الآل " (). وهذا فهم دقيق لم يسبقه إليه سابق.
أما تناوله للتقديم من أجل (مراعاة النظم) فيقول فيه:" ولمراعاة النظم قدم قوله: (والقمر قدرناه منازل) () ليكون على نسق الآيتين السابقتين " (). وهذا فهم دقيق إذ جعل من تقديم المفعول به (القمر) داعيا لمراعاة النظم في الآية في تضافره مع الآيتين السابقتين.
أما العلوي فيتناول المسألة نفسها من خلال إشارته إلى أن للمعاني في التقديم أحوال خمسة هي ():
الأول: تقدم العلة على المعلول، مثل تقدم السراج على ضوئه.
والثانية: التقدم بالذات، نحو تقدم الواحد على الاثنين.
والثالثة: التقدم بالشرف، نحو تقدم الأنبياء على الأتباع، والعلماء على الجهال.
والرابعة: التقدم بالمكان، نحو تقدم الإمام على المأموم.
والخامسة: التقدم بالزمان، نحو تقدم الظلمات على النور، والجهل على العلم.
¥