تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ويتعرض الإمام السيوطي لهذا النوع من " التقديم والتأخير المعنوي" ودلل عليه بالعديد من الآيات القرآنية، نحو قوله تعالى: ? وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً ? سورة النساء آية رقم (83). يقول السيوطي: " هذه الآية مقدمة ومؤخرة، إنما هي أذاعوا به إلا قليلا منهم، ولولا فضل الله عليكم ورحمته، لم ينج قليل ولا كثير" (). ونحو قوله تعالى:? فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً ? سورة النساء آية رقم (153). يقول: " قال ابن عباس: (إنهم إذا رأوا نفسه رأوه، إنما قالوا: (جهرة أرنا الله). قال: هو مقدم ومؤخر. قال ابن جرير: (يعني أن سؤالهم كان جهرة) () " ().

تلك هي أهم إحاطات العلماء بهذا النوع من " التقديم والتأخير المعنوي ".

ثالثاً: ما قدم في آية وأخر في أخرى

ويقصد بهذا النوع ورود اللفظة (مقدمة) على كلمات أخرى في آية قرآنية، ثم ورودها مؤخرة في آية أخرى نحو قوله تعالى: ? وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى? سورة يس آية رقم (20)، وفي آية أخرى يقول تعالى: ? وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى? سورة القصص آية رقم (20). يقول الزركشي: " قدم المجرور على المرفوع لاشتمال ما قبله من سوء معاملة أصحاب القرية الرسل، وإصرارهم على تكذيبهم، فكان مظنة التتابع على مجرى العبارة تلك القرية، ويبقى مخيلاً في فكره: أكانت كلها كذلك، أم كان فيها خلاف لك، بخلاف ما في سورة القصص " ().

ويقصد بالمجرور هنا (من أقصى المدينة) على المرفوع؛ الفاعل (رجلٌ).ويقول: " من ذلك قوله في فاتحة الكتاب: (الحمد لله) () وفي خاتمة الجاثية: (فلله الحمد) () فتقديم (الحمد) في الأول جاء على الأصل، والثاني جاء على تقدير الجواب، فكأنه قيل عند وقوع الأمر: (لمن الأمر؟! ومن أهله؟) فجاء الجواب عن ذلك " (). وقد قام الإمام الزركشي في سياق هذا التناول بتحليل (12 اثنتي عشرة آية).

أما العلوي فقد تناول المسألة بالتحليل الدقيق كعادته. يقول: " قوله تعالى ? وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَالسَّمَاءِ? يونس (61)، وقال في آية أخرى: ? وَلاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ? سبأ (3)، والتفرقة بينهما هو أنه أراد في الثانية ذكر إحاطة علمه وشموله لكل المعلومات الجزئية والكلية، فلا جرم صدّرَ بالسماوات قبل الأرض لاشتمالها على لطائف الحكمة، وعجائب الصنعة، ومحكم التأليف، وكثرة المعلومات كما قال تعالى:? وَكَذَلِكَ نُرِيَ إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ? الأنعام (75) وأما الأولى فإنها كانت مسوقةً في شأن أهل الأرض كما قال تعالى: ? وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً ? يونس (61) فقدم ذكر الأرض تنبيهاً على ذلك لما كان له اختصاص به " ().

لكن أجمل ما قال العلوي هو ما ذكره من حكمة دقيقة، وفهم راق لأسرار" التقديم والتأخير القرآني" قوله: " اعلم أنه إذا كان مطلع الكلام في لإفادة معنى من المعاني ثم يجيء بعده ذكر شيئين و أحدهما أفضل من الآخر، وكان المفضول مناسباً لمطلع الكلام، فأنت ههنا بالخيار، فإن شئت قدمت المفضول لما له من المناسبة لمطلع الكلام، وإن شئت قدمت الفاضل لما له من رتبة الفضل، وقد جاء في التنزيل تقديم (السماء) على (الأرض)، وتقديم (الأرض) على (السماء)، وكل واحد منهما تحته سر ورمز إلى لطائف غريبة، ومعان عجيبة " (). وقد أجاد في هذا التحليل الدقيق حقاً، مما يدل على فهم واع راق لهذا اللون من " التقديم والتأخير".

غير أن أهم ما يسترعي الانتباه في هذا المقام هو كلام ابن النقيب الذي يرى في هذا النوع من " التقديم والتأخير" نوعاً من التكافؤ فيسميه (ما يتكافأ تقديمه وتأخيره). يقول ابن النقيب: " قال بعض العلماء في قوله تعالى: ? وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ? يوسف (24) إن في الكلام تقديما وتأخيرا تقديره: (ولقد همت به ولولا أن رأى برهان ربه هم بها). وهذا حسن، لكن في تأويله قلق. ولا يضطر إلى هذا التأويل إلا على قول من قال: (إن الأنبياء معصومون من الكبائر والصغائر). وأما على قول من قال: (إن الصغائر يجوز وقوعها منهم) فلا يضطر إلى هذا التقديم والتأخير " ().

فهو هنا يربط بين جوانب اعتقادية خاصة بأحوال الأنبياء وما يجوز لهم من العصمة المطلقة على رأي الجمهور، والعصمة من الكبائر فقط على رأي بعض الأحناف والحنابلة، وبين تأويل التقديم والتأخير في الآية وفقاً لهذا الاعتقاد (). وإن ظل التساؤل قائماً: كيف يتكافأ " التقديم والتأخير" في هذا النوع؟ وكيف نقول أن قوله تعالى: ? فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى ? سورة الأعلى آية رقم (5) هي هي في السياق نفسه إذا قلنا – في غير القرآن -: (فجعله أحوى غثاء). وفي قوله تعالى: ? اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ القَمَرُ? سورة القمر آية رقم (1) هي هي في السياق نفسه إذا قلنا – في غير القرآن -: (انشق القمر واقتربت الساعة).

إن ابن النقيب في هذا التوجه يلغي جماليات متولدة من توظيف هذا النوع من " التقديم والتأخير المعنوي" بل وينسفها نسفاً عندما يقول بالتكافؤ، وهذا رأيه وله كل الاحترام في هذا الاجتهاد وإن جانبه الصواب.

تلك هي أنواع " التقديم والتأخير المعنوي" وقفنا فيها على أهم إشارات العلماء وتلميحاتهم وتحليلاتهم في هذا السياق، وما نتج عن هذه الوقفات من جماليات في النص الجزئي والكلي معاً.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير